الخميس، 16 سبتمبر 2010

البحث عن متعة المشاهدة

من فيلم "طيور" لفولجاريس

بقلم: محمد هاشم عبد السلام
((يسعدني أن أستضيف في هذا الفضاء المتواضع الناقد والروائي الصديق محمد هاشم عبد السلام، في هذه المقالة البديعة التي تعبر عن فكر ورؤية ثاقبة فيما يتعلق بالمؤثرات والتاثيرات المتعلقة بموضوع "الفرجة" في عالمنا في الوقت الجاري، وصولا إلى الدور الآخر للتليفزيون في عالم مختلف، في تعميق المشاهدة المتأنية الواعية للسينما)).


قبل سنوات بعيدة كانت لي زاوية ثابتة متخصصة في عروض الكتب بمجلة "أحوال" الإماراتية، ومن بين الكتب التي قدمت لها في هذه الزواية كتاب "التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول" للمفكر وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير "بيير بورديو" (1930 – 2002). ولفرط إعجابي الشديد حتى اليوم بهذا الكتاب المتميز، رغم صغر حجمه، أعدت الكتابة عنه بشكل موسع في مجلة "تليفزيون الخليج"، التي تصدر عن دول مجلس التعاون الخليجي.
يركّز بورديو في هذا الكتاب الشيق وبطريقة مباشرة وحادة بعض الشيء، على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة، وفي القلب منها ذلك الجهاز الضخم الذي يسمى التليفزيون، وما تمارسه هذه الوسائل من "تلاعب وتأثير" في عقول الناس. ويبين كيف تقوم هذه الوسائل، خاصة الصحف والتليفزيون، بتشكيل الأفكار والوعي العام، وكيف تعمل آليات توجيه وتشكيل الوعي والرأي العام، ومن الذي يقوم بالتحكم في تنظيم وتوجيه أو إدارة هذه الآليات؟ وكيف أن الصحافة، وبعدها التليفزيون، كان الهدف الأساسي منهما خلق أداة تنوير وتثقيف وتغيير للوعي والواقع لما هو أفضل، أو على الأقل القيام بعملية "إخبار" حقيقية صادقة لكل ما يجري وفي حيادية تامة، وكيف أنها غدت بفعل هيمنة قوى المال ونخب المصالح أداة تمرير لما يتطلبه السوق وعلاقات الربح من حيل إعلانية واستعراضات باذخة وباهتة المضمون، وإلى أي مدى ساهمت في عزوف الناس عن السياسة والثقافة الجادة، وتعميم قيم الاستهلاك والسلبية والامتثالية.
من بين الأمور العديدة التي تعرض لها بودريو في هذا الكتاب تلك الخلفية التي تراها أعيننا على الشاشات الزائفة أمامنا، وقدم لنا في ذلك نموذج شديد الرواج وهو البرامج الحوارية أو "التوك شو"، وراح يفندها بدقة وبعين خبير متفحص، بدءًا من تركيب البلاتوه مرورًا بنبرات المذيع والضيوف المتحدثين من كلا الجانبين وانتهاء بالصراعات والمناقشات الحادة المفتعلة فيما بينهم، وفرض نمط التفكير السريع، وتقديم الندوات الزائفة، وانتقاء الأسئلة وعدم إعطاء الحق في الكلام لمن يملك أفكارًا جديدة أو جيدة، وكيف يجري الضغط على هؤلاء ومنحهم الحق في وقت غير ملائم. إلى آخر كل هذه التنويعات التي هي من أدوات التلاعب بعقول المشاهدين وتغيير وعيهم وممارسة الرقابة عليهم في نفس الوقت، ودفعهم إلى التفكير في أمور بعينها وفي اتجاه معين، وبالتالي بناء نمط معين قائم على هذا التوجيه الخفي.
وقبل فترة قصيرة، أثارت مقالة كتبها الصديق العزيز الناقد أمير العمري عن الفرجة وآليات المشاهدة التليفزيونية الكثير من المواجع والشجون عندي، ودفعتني كلماته الهامة عن طقس الفرجة، كما يسميه، وما يخلقه في المتلقي من إيجابية أو سلبية إلى المقارنة بين ما قرأته بين دفتي كتاب بورديو، وتجربتي الشخصية مع طقس آخر مغاير من أنواع المشاهدة وجدت نفسي مدفوعًا إليه رغمًا عني ومجبرًا عليه، لكن نوعية الإجبار هنا كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي تعرض لها وفندها بورديو في كتابه وأكد عليها الصديق أمير العمري في مقالته، فنوعية الإجبار هنا دفعت إليها عن طيب خاطر وبحب بالغ وإقبال كان له ما يبرره في نظري آنذاك. وأود قبل أعرض لتلك التجربة أن أوضح أنني لن أتحدث هنا معلقًا عن دور الدراما والمسلسلات وتجربة مشاهدتها أو عن البرامج الحوارية وغيرها من البرامج أو الأمور تعج بها محطاتنا الفضائية ليل نهار دون تحقيق فائدة من أي نوع، فكلامي سيعمل على توسيع نطاق زواية الرؤية أكثر بعض الشيء للمقارنة بين حال القمر المصري بقنواته التي قاربت السبعمئة قناة (أربعين مليون متابع في الوطن العربي وفقًا لإحصائيات هذا العام 2010) وقمر واحد فحسب هو القمر الأوروبي "الهوتبيرد"، وتجربتي التي لا تنسى معه.

من فيلم "ستالكر" لتاركوفسكي
قبل عدة سنوات، من باب مواكبة العصر، فكرت في تركيب جهاز ستالايت عندي بالمنزل لمتابعة ما يتردد على مسمعي من أسماء محطات مختلفة دون أن أدري عنها أي شيء، ومن دون وعي مسبق صممت على ضرورة تزويد الطبق بلاقط للقنوات الأوروبية أولا إلى جانب آخر للقمر المصري، ورغم الصعوبة التي واجهتني في هذا الأمر، إلا أنني رجحت الاستغناء عن الفكرة برمتها لو فشلت في تركيب لاقط القمر الأوروبي، وبعد فترة أتضح أنني كنت على حق في هذا، وتدريجيًا، ربما بعد أسبوع أو أقل، تناسيت أمر القمر المصري تمامًا، ووجدتني أغرق وسط طوفان من القنوات الفضائية الأوروبية أحاولا لاهثًا، دون فائدة، مجاراة ما تقدمه على مدار ساعات اليوم من مواد إخبارية وسينمائية وبرامج وأغاني وغيرها الكثير مما لا تمله العين أو تتأذى له الأذن.
وبعد فترة ليست بالقصيرة صرت محترفًا فيما يتعلق بأمر قنوات القمر الأوروبي، فرحت أستغني تمامًا عن كل ما ليس لي به علاقة، وأركز فقط على عشرات، أؤكد عشرات، القنوات، التي تأكدت أنها تستحق المتابعة وتخصيص الجهد والوقت خلال ساعات اليوم. وبعد أن كان الأمر في البداية خاصعًا للصدفة البحتة والانتقال العشوائي بين قناة وأخرى لمحاولة ملاحقة ما تبثه، أفلحت بعد ذلك في منهجة عملية الفرجة بشكل تخطيطي صارم وفقًا لتوقيتات البلدان وما تبثه كل قناة.
سأقصر حديثي هنا على محطة أو محطتين تحديدًا لأن المقام لا يتسع لذكر أسماء أو مميزات كل محطة من المحطات على حدة. في البداية وعلى رأس كل هذه المحطات وجدتني مشدودًا إلى المحطة العملاقة "آرتى" الفرنسية الألمانية المتميزة، بكل ما تقدمه بالفرنسية وأحيانًا الألمانية، رغم معرفتي القليلة باللغتين، لكل ما هو فني راقي، من برامج سواء حوارية أو غيرها (ضاربًا بكلام بورديو عرض الحائط) أو متابعات لمهرجانات أو أحداث فنية أو عروض ريبورتاجات فنية ومتحفية إلخ، إلى جانب بالطبع الوجبة السينمائية اليومية، ناهيك عن وجبة أخرى كانت تخصصها القناة كل أسبوع لعرض مجموعة أفلام لمخرج بعينه، فهذا الأسبوع أسبوع تاركوفسكي، أو كوبولا أو بولانسكي أو لانج، على سبيل المثال، وكانت هذه القناة تتميز بميزة محببة عندي للغاية دون سائر القنوات، (للأسف تخلت عنها الآن بعض الشيء) تتمثل في عدم دبلجتها لأي حوار لأي فيلم تقدمه، فقط تضع الترجمة الفرنسية بخط صغير أسفل الشاشة وينتهى الأمر عند هذا الحد، إلى جانب انتفاء أي نوع من أنواع القطع ولو اللحظي لأحداث الفيلم من أجل فاصل إعلاني أو إخباري أو غيره من الأمور حتى لو انقلب العالم رأسًا على عقب، إضافة إلى ميزة أخرى لم أرها في أي محطة أخرى تتمثل في عدم إظهار شعار أو اسم المحطة في أي ركن من أركان الشاشة، لتلافي إزعاج المتفرج أو تشتيت انتباهه أو إفساد صورة الفيلم المعروض لمن يهون تسجيل الأفلام، فاحترام المشاهد والمادة المقدمة، والفنان الذي أبدعها يأتي أولا وقبل كل شيء عندهم، وإن كان الفيلم المعروض تصل مدة عرضه إلى ثلاث ساعات، على سبيل المثال، كنت أجلس الثلاث ساعات كاملة وأنا على يقين تام من أن الفيلم لن يقطع أبدًا أو يتخلله فاصل إعلاني أو استراحة حتى ينتهي تمامًا، وأقصد بينتهي تمامًا، ليس مجرد ظهور كلمة النهاية، إن كانت موجودة، بل انتهاء التترات النهائية كلية، خلافًا لما يحدث عندنا من حذف حتى لاسم المخرج بعد انتهاء الفيلم.
ليس هناك أدنى شك في أن الحديث عن كل قناة من هذه القنوات على حدة قد يستغرق العديد من الصفحات التي يجب تخصيصها لكل محطة وما تقدمه، كما ذكرت من قبل، فثمة الكثير برأيي يستحق الإشادة أو على الأقل مجرد الإتيان على ذكر اسم المحطة كنوع من أنواع الدين الذين أنا مدين به لهذه المحطات التي لولاها لما شاهدت الكثير من الروائع الفنية والتسجيلية والسينمائية الطويلة. ولولا، على سبيل المثال، المحطة المجرية الرسمية، لما تمكنت من مشاهدة أعمال المخرج المجري اشتيفان سابو، أو ميكلوش يانتشو أو زولتان فابري، أو البرامج التسجيلية أو الحوارية المعدة عنهم وعن غيرهم. والشيء نفسه ينطبق على المحطات الإيطالية، "الراي" تحديدًا، وهذا الكم الهائل من الأفلام الإيطالية القديمة والحديثة وغيرها من الأفلام الأجنبية الأخرى، التي تبث على مدار الساعات على كافة محطاتها، وعلى الرغم من الداء الفظيع لدى الإيطاليين حيث الولع بدبلجة كل شيء وكذلك قطعهم الإعلاني على الأقل مرة في منتصف الفيلم، إلا إنني لا أنكر أبدًا أنني شاهدت الكثير جدًا من المواد السينمائية والتسجيلية النادرة على هذه المحطات، بما في ذلك المحطات الإيطالية التعليمية أيضًا.

من فيلم "المروج الباكية" لأنجلوبولوس

من بين الأمور الكثيرة التي استوقفتني وقتها أثناء فترة متابعتي لتلك المحطات، ملاحظة أدهشتني للغاية، فمعظم المحطات التي كنت أتابعها كانت عبارة عن محطات حكومية مملوكة لبلدانها، ربما باستثناء "الآرتى"، أو "الميزو" (تلك المحطة الموسيقية المرعبة في فرادتها وتخصصها) إن لم تخني الذاكرة، فهناك أكثر من محطة ألمانية، ومجرية، ورومانية، وسلوفينية، وسويسرية، وبولندية وإسبانية إلخ، ليست سوى القنوات الأولى أو الثانية بتليفزيونات بلدانها، وهو أمر يدعو بالفعل إلى الحسرة عند مجرد التفكير فيه وتأمله. وما فاق وغطى على كل هذا، من وجهة نظري، كان قناة البرلمان اليوناني، تلك المحطة التي لا يتجاوز عدد ساعات إرسالها عشر ساعات أو يزيد قليلا مقسمة على مدار اليوم، وهي بالفعل قناة خاصة تابعة للبرلمان اليوناني، تذيع جلسات مجلس الشعب أو الشوري، لا أعرف بالضبط، اليوناني صباحًا لمدة ساعتين أو ثلاثة ثم تغلق تاركة إياك تستمتع بعزف خلفي لأروع الموسيقات الكلاسيكية، وتفتح مرة أخرى بعدة فترة لا تتجاوز الساعتين، لتذيع الكثير مما لم تشهده عيناي من قبل، ثم تغلق عند منتصف الليل، تاركة لك حرية الاستماع إلى ما تبثه من قطع من أروع الموسيقات الكلاسيكية على خلفية تعرض برامج اليوم التالي.
كانت هذه المحطة التي أجهل اسمها باليونانية أو حتى معناه (تليفزيون....) "ΒΟΥΛΗ-ΤΗΛΕΟΡΑΣΗ"، متخصصة فقط في كل ما هو فني، لا وجود لمذيعين أو مذيعات أو إعلانات أو غيرها من هذه الأمور، باستثناء نشرة أخبار مقتضبة لا تتجاوز الخمس دقائق. كانت تفتتح ساعاتها الفنية بفيلم تسجيلي عن ممثل أو مخرج أو مغني أو فرقة موسيقية معروفة أو مدرسة من المدارس الفنية إلخ، ثم تسجيلي آخر في كافة حقول المعرفة، وكان أغلبها من إنتاج البي بي سي أو القناة الرابعة البريطانية أو مما كانت تبثه محطتي الناشيونال جيوجرافيك أو الأنيمال بلانيت، ثم بعد ذلك فيلم السهرة. وفيلم السهرة لم يكن يختار هكذا هباء، بل وفقًا لبرنامج معد سلفًا طوال الأسبوع، باستثناء يومي السبت والأحد، يوم للمسرح، وآخر للبالية أو الأوبرا، وبقية أيام الأسبوع الخمسة لمخرج سينمائي واحد فقط تعرض له مختارات من أعماله الفنية. كانت هذه القناة تتمتع بنوع من الفاشية محبب جدًا لنفسي، فلم يكن هناك أي فيلم هوليوودي أو بوليوودي أو ترفيهي دون المستوى يعرض بها على الإطلاق، ولم أشاهد بها أية أفلام أمريكية اللهم إلا أفلام كازافيتش أو جارموش أو لينش فقط، وهذا معناه أن كل ما هو دون المستوى حتى وإن كان جميلا حائزًا على الأوسكار أو غيرها من الجوائز المهرجانية لم يكن له أي مكان بها، لدرجة أن أفلام الويسترن المحترمة كالتالي لسيرجوليوني العظيم لم تكن تعرض هناك، وربما مرد ذلك للمساحة الزمنية التي لم تكن تتسع لنوع آخر أو عينة أخرى من المخرجين ليس إلا، فمن يترك أفلام تاركوفسكي وبيلا تار وفيلليني ودراير وأنطونيوني وكيشلوفسكي وبرجمان وبازوليني وغيرهم من القمم ليعرض لمن هم أدنى منهم مكانة، فالمجال هناك وكذلك الذوق الفني الصارم في الانتقاء لا يتسع لآخرين ليسوا من طينة هؤلاء على الإطلاق. وبفضل هذه القناة شاهدت هناك العديد من أفلام هؤلاء لم يسبق لي مشاهدتها أو أعدت مشاهدت بعضها أو تعرفت على بعضهم وعلى أفلامهم لأول مرة، كوباياشي ومينزل وفايدا إلخ. وبالرغم من هذا كنت أراهن دائمًا على أنهم لن يصمدوا كثيرًا أمام طوفان الأفلام الأخرى والمخرجين الآخرين، لكنهم ظلوا عند حسن ظني الفني بهم وأخسروني الرهان، ولم يتنازلوا قيد أنملة عن خياراتهم الفنية الصارمة، وهي صارمة بحق، فهم عندما يختاروا على سبيل المثال عرض أسبوع لفيلليني، كانوا يختاروا أهم ما أنجز فيلليني أو بونويل أو ساورا أو غيرهم، أن أي الاختيار لم يكن اختيارًا عشوائيًا على الإطلاق، وكم كان هذا ولا يزال يثير في نفسي الدهشة، فكيف لمجموعة من القائمين على محطة ليست بالمتخصصة، سياسية بالأساس، يتوفر لديهم مثل هذا القدر الجميل من الذائقة الفنية الرفيعة في كل ما يقدمونه حتى على مستوى المادة الوثائقية؟ ولا أنسى بالطبع أنهم في بعض الأحيان، وفي يوم بمنتصف الأسبوع على وجه التحديد كانوا يعرضون بدلا من الأفلام التسجيلية فيلمًا يونانيًا لأحد مخرجيهم، وكان هذا الرافد في غاية الأهمية بالنسبة لي، لأقف على السينما اليونانية ومخرجيها ومدارسها، وأشاهد من هم غير كاكويانس وزورباه، لأدهش على سبيل المثال بمخرجين رائعين كفولجاريس، وكوندوروس، ناهيك، بالطبع، عن الرائد الكبير أنجلوبولوس.

من فيلم "ماما روما"


رسخت عندي هذه المحطة، وغيرها من المحطات التي تعرض أكثر من عمل لمخرج بعينه، خاصية غاية في التميز، في رأيي، وكانت لتلك الخاصية بذورها في غيرها من المجالات الفنية الأخرى التي أهتم بها، إلا أن هذه البذور صارت مع الوقت تترسخ وتتجذر وتتعمق، وبت أطبقها بحزم على كافة المجالات الفنية لفائدتها العميقة، وتلك الخاصية التي بت أنتهجها تتمثل في التعامل مع أي مخرج أو فنان أو كاتب إلخ بصورة إجمالية متدرجة، بمعنى، ألا أتحدث عن مخرج أو فنان أو كاتب أو موسيقي دون معرفتي الإجمالية بكافة أعماله، والمعرفة هنا لا تعني فقط مجرد حفظ أو ترديد أسماء الأعمال. أما التدرج، فأقصد به قراءة أو مشاهدة أو سماع أعمال هذا الكاتب أو المخرج أو الموسيقي منذ بداياته الأولى وحتى آخر ما أعماله الإبداعية. فقد اكتشفت أن هذا لا يجعلك على إلمام بمجمل أعمال هذا المبدع فحسب، بل أيضًا يجعلك تقف على الصعود أو الهبوط، الثبات أو الانقلاب في المستوى الفني الذي مرّ أو مرت به أعمال هذا المبدع على مدار حياته، وبالتالي تكوين صورة كاملة وشاملة عنه تجعلك في النهاية تستطيع الكتابة أو الحكم بمنطق فني وحياد على أعماله أو مستواه، دون التأثر بما قد يكتبه البعض أو تكوين رأي بناء على عمل قد يكون هو الأقوى أو الأضعف بين تسلسل أعماله الإبداعية.

من فيلم "قنال" لأندريه فايدا


ذكرت في مطلع هذا المقال أن ثمة نوع من المشاهدة أجبرني إجبارًا على أو اضطرني إلى أن أعيد النظر فيما ذكره بورديو، وكذلك إعادة ترتيب نظام حياتي وتشكيله وفقًا لما تمليه عليّ مقتضيات هذه المشاهدة وبقدر ما لها من أهمية أيضًا، فثمن نوع من المشاهدة تدفعك بالفعل إلى هذا وبالتالي ليست كل مشاهدة سلبية وامتثالية بالضرورة، تسلب الإنسان ملكاته وقدراته وقواة العقلية، لأن هناك مشاهدة قد تدفعك في أحيان كثيرة إلى أن تطأ قدمك مناطق ليس لك أي عهد سابق بها، أو لم يكن يخطر ببالك مجرد التفكير فيها، على الأقل هذا ما حدث معي. فعندما، على سبيل المثال، أتذكر الآن كيف أنني كنت أبحث لاهثًا عن محاولا إماطة اللثام عن أمر اللغة اليونانية ومعرفة أبجديتها بل وحتى تعلمها من أجل قناة البرلمان اليوناني هذه، أجدني أبتسم من غرابة التجربة، وأسعد بما حققته فيها وما دفعتني إليه.
في البداية كانت قد واجهتني صعوبة بالغة في متابعة المواعيد المختلف وأحيانًا المتضاربة لما تبثه هذه المحطات من مادة بغية متابعتها أو تسجيلها والاحتفاظ بها، فرحت قبل أي شيء، بعدما فاتني أكثر من فيلم ومادة هامة، أبحث في الانترنت عن توقيتات البلدان المختلفة، إلى أن اهتديت إلى برنامج صغير تدخل به اسم البلد ليذكر لك التوقيت بالضبط وفقًا لتوقيت بلدك، وبذلك استطعت أن أحل أول مشكلة واجهتني مع توقيت المحطات. وكانت المشكلة الثانية تتمثل في رغبتي في أن أعرف مسبقًا ما ستبثه كل محطة وتوقيت بثه حتى لا أظل تحت رحمة الانتقال من محطة إلى أخرى أو أن يفوتني بداية فيلم أو برنامج يفسد علي متعة المشاهدة أو التسجيل، فلجأت إلى الانترنت مرة أخرى، وهالني ما وجدته هناك، كل محطة من هذه المحطات تضع لن أقول برامجها الأسبوعية فحسب، بل نصف الشهرية وأحيانًا الشهرية أيضًا، وبالكامل، منذ أن تبدأ المحطة الإرسال وحتى الختام، وبتوقيت صارم لا مجال للتهريج فيه، وهناك مواقع توفر عليك كل هذا العناء، فموقع قنوات "التي في سانك" الفرنسية، على سبيل المثال، بمحطاتها الثلاث، بمجرد أن تختار المحطة يظهر لك منطقتك الجغرافية لتختار بلدك ويرتب لك جداول العرض وفقًا لتاريخ بلدك الذي اخترته، وإن كنت تبحث عن فيلم ضمن جدول البرامج فستجد كل ما يخص الفيلم، الحبكة، تاريخ الإنتاج، الممثلين الجوائز، صور، وأحيانًا دقيقة من الفيلم لتستعرضها.
لكن في مواقع أخرى واجهتني مشكلة مختلفة، فأنا لا أعرف البولندية أو المجرية أو الرومانية أو الإسبانية أو الأرمينية إلخ، فماذا أفعل لأعرف عنوان الفيلم أو اسم مخرجه؟ ومن هنا، رحت أبحث في جميع اللغات التي أحتاجها عن كلمة إخراج، لأنهم جميعًا كانوا يكتبون اسم الفيلم المعروض وتوقيت العرض ومدة الفيلم ثم اسم المخرج، فتعلمت الأحرف التي تكتب بها هذه الكلمة بعدة لغات، وكنت أقف عندها في الجداول وعندما أجد كلمة إخراج يليها اسم المخرج، وفي أحيان كثيرة كان من السهل علي قراءته أو تخمينه والتعرف عليه، كنت أسجل يوم العرض والتوقيت وزمن الفيلم، وأذهب لصفحة المخرج أو الفيلم على قاعدة البيانات بالإنترنت لتكوين فكرة مسبقة عن الفيلم والقصة والأبطال إلخ (فالفيلم، في أغلب الأحيان، إما مدبلج أو ناطق بلغة أجنبية وعليه ترجمة أجهلها، ناطق بالروسية وعليه ترجمة بولندية، مثلا). وبعد الانتهاء من كافة المحطات كنت أنتقل إلى مرحلة أخرى تتمثل في محاولة التوفيق بين هذه المحطات، والحرص على عدم حدوث تداخل فيما بينها، وإن حدث، فكنت أبدّي فيلمًا عن آخر، أو أترك المهم من أجل الأهم، أو الفيلم الذي سيعاد في يوم وتوقيت آخر واستعيض عنه بما لن يعاد أو يعرض على أي محطة خلال الشهر، وهكذا أستطعت حل جميع المشاكل التي واجهتني من أجل مشاهدة محببة دفعتني لبذل ما لا أطيقه في سبيل الفوز بما أحب، لكن الأمر كان غير ذلك بالمرة فيما يتعلق بالقناة اليونانية الأثيرة عندي حتى اليوم، فموقع المحطة الثانوي، داخل موقع البرلمان اليوناني، كان باللغة اليونانية ولا يزال حتى يومنا هذا، وبالتالي لن يفلح معه تعلمي لكلمة إخراج من أجل إماطة اللثام أو معرفة أي شيء عن صاحب الفيلم، ناهيك باسم الفيلم أو أي شيء آخر مكتوب عنه، فقط مدة عرض الفيلم وتوقيت العرض المكتوبين بأرقام هندية هما الواضحين والمعروفين لي وسط هذا الركام من الأحرف اليونانية.

المخرج اياباني مازاكي كوباياشي

لا أعرف كيف لم أفلح في العثور على كتاب واحد لتعليم اللغة اليونانية وقتها، رغم مصادفتي بعد ذلك لأكثر من كتاب في هذا الشأن، تعجبت من هذا وقتها، لكن حبي لهذه المحطة وفرادة ما تقدمه دفعني مرة أخرى للبحث في الإنترنت عن مواقع لتعليم اللغة اليونانية، وبالفعل وجدت موقعًا وضع الأحرف اليونانية القديمة إلى جوار الحديثة إلى جوار المقابل اللاتيني لها، وبذلك استطعت على الأقل أن أقرأ الحروف اليونانية مفردة وأعرف المقابل اللاتيني لها، هذا رسم حرف كذا وهذا رسم حرف كذا، وحفظت الأبجدية اليونانية عن ظهر قلب، مع جهلي بالنطق الصوتي للحروف، ولم يكن هذا مهمًا على الإطلاق بالنسبة لي. بعد ذلك، رحت كمن يفك طلاسم حجر رشيد أطبع جميع برامج القناة من الموقع، وأحاول ترجمة الأحرف اليونانية حرفًا حرفًا بأحرف لاتينية، على أمل أن تسفر الكلمة المترجمة عن اسم قد يشبه اسم مخرج أعرفه أو التكهن بفيلم أتذكره، لأنني قررت في البداية التركيز على الأفلام، وترك أمر الأفلام التسجيلية والوثائقية مؤقتًا، لأقف على الأقل في البداية على الأيام التي كانت تعرض فيها الأفلام، لأنني وقتها لم أكن أعرف باليونانية كلمة بالية أو أوبرا أو مسرحية أو فيلم، إلى أن اهتديت في النهاية إلى معرفة ترتيب العرض الذي تسير به القناة. بالطبع، أخطأت كثيرًا جدًا في البداية، فترجمتي لاسم برجمان على سبيل المثال تسفر عن اسم المخرج باراجانوف، فيلليني يتضح أنه بنيني إلخ، لكن كل هذا كان باعثًا على السعادة بالنسبة لي لأنني كنت على يقين تام في النهاية أنني حتى لو أخطأت في قراءة اسم المخرج أو اسم الفيلم فسوف أستمتع بما سيقدم، لأن من خلفه شيء كبير يدعى، الذوق، الذوق الرفيع في تقديم مادة فنية جميلة راقية ترقتي بالمشاهد وفكره وتحترم وقته وجلوسه مختارًا هذه المحطة بالذات. ومن نافل القول، بالطبع، إن هذا الذوق لا يأتي من فراغ.
وعندما أعود بذاكرتي الآن إلى تلك الفترة غير البعيدة، لا أجدني أتذكر محطة من تلك المحطات لم أشاهد بها ما هو "جديد" أو "فريد"، حتى ولو كانت المحطة غير متخصصة أو ترفيهية، والجديد هو ما لم أشاهده من قبل من مواد عرضت بهذه المحطات، والفريد أقصد به تلك المواد التي أبحث عنها في الإنترنت أو على هيئة اسطوانات ولا أجدها حتى اليوم، فأسعد لأنني واتتني فرصة تسجيلها أو على الأقل الاستمتاع بمشاهدتها. وغني عن القول أن كل ما شاهدته من مواد، حتى من زمن الأفلام الصامتة، مطلع القرن الفائت، كان في غاية النقاء والصفاء والوضوح، لا أتذكر أنني شاهدت مادة فيلمية تسجيلية أو وثائقية أو روائية كانت بها عيوب من أي نوع، فلا وجود لبقع أو دوائر أو خطوط تظهر في المادة بين الحين والآخر أو عيوب في الصوت أو الألوان إلخ. كما أتذكر جيدًا أن أغلب المحطات، كانت تتسابق في أيام احتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة بعرض جديدها، ولا أقصد بجديدها تلك المواد الفيلمية المعروضة حديثًا في السينمات أو المخصصة حصريًا لتلك المحطات، بل أقصد التفنن في تقديم كل ما هو قديم جديد، إن جاز التعبير، فثمة أفلام لشابلن على سبيل المثال أو مقاطع من أفلامه لم أشاهدها من قبل حتى يومنا هذا ولا أجدها على الإنترنت أيضًا، شاهدتها في غير محطة، لوريل وهاردي مثلا، شاهدت لهما الكثير مما لم أشاهده من قبل، وأحيانًا ما شاهدته بالأبيض والأسود أيام الطفولة كنت أجده ملونًا، كما أن جدتها تدل على أنها خارجة من معامل الطباعة لتوها، وبالفعل كنت أستشعر بهجة العام الجديد والاحتفال الحقيقي مع هذه المحطات لما كانت تقدمه من مواد نادرة، أدرك جيدًا أن أموالا طائلة دفعت فيها مقابل ترميمها أو طباعتها أو تلوينها أو العثور عليها وإخراجها من الأرشيفات السينمائية.

باتيليس فولجاريس

أحببت أن آتي هنا على ذكر تجربتي الخاصة مع نوع من المشاهدة ليس لمجرد الذكر فحسب، بل للتدليل على أن ثمة نوعية من المشاهدة قد تدفع بالمشاهد إلى محاولة البحث أو التعلم أو ترتيب الوقت أو بذل الجهد من أجل المتابعة والتفاعل مع ما يحب. بالطبع أعرف جيدًا وأدرك تمامًا أن هناك محطات لا حصر لها، ربما تتجاوز الألف بالقمر الأوروبي، مخصصة لكل ما هو رياضي وسياسي ودعائي وتهريجي وغيرها من الأمور، لكن الفارق بين هذا وذاك أن كل شيء متاح، من يريد المسلسلات أو البرامج الترفيهية أو الحوارية أو السياسية أو المسابقات أو غيرها سيجد، من يرغب في جرعة متكاملة خفيفة من كل هذا سيجد، ومن يبحث عن جرعة ثقيلة متخصصة غاية في التخصص، أيضًا سيجد، ولذلك، وبعد إقدامي على هذه التجربة، يمكنني القول إن بورديو جانبه الإنصاف بعض الشيء في عرض الصورة كاملة فيما يتعلق بما تهدف إليه هذه المحطات من هدم وتخريب وتلاعب بالعقول، (كنت وقتها أقول في نفسي، ربما كان بورديو يقصد قنواتنا نحن بكلامه القاسي هذا، وأجدني أتساءل ماذا لو تابع أو شاهد بورديو مجرد مشاهدة حفنة من قنواتنا؟ أية مجلدات كان سيكتبها هذا المفكر؟!)، والدليل على ذلك بعض القنوات التي ذكرتها وغيرها مما نسيت ذكره، فمثلا، هل تهدف المحطة التي تحمل اسم "المؤلف"، التي لا تعرض إلا الأفلام الخاصة بالمخرجين الذين ينتمون إلى هذا النوع من السينما المعروف بـ "سينما المؤلف"، إلى تخريب العقول والتلاعب بها أو إفساد الأذواق؟ سؤال أجدني مضطرًا لطرحه وإمعان النظر فيه.
في الختام أحب أن أوضح أنني لا أدعو من وراء هذه الكتابة إلى نوع من المقارنة بين هذا وذاك، أي، بين ما نقدمه وكيف نقدمه وبين ما يقدمونه، ليس لأن المقارنة ستكون ظالمة ومجحفة من وجهة نظر البعض، وإنما لانتفاء أي مجال للمقارنة من الأساس، فشتان بين ما يدفعك للبحث والاستمتاع وإعمال العقل لأنه يحترمك ويقدرك كمتفرج، وبين من يدفعك إلى الكسل والخمول والغباء، لأنك بالنسبة له لست أكثر من مجرد أعين مفتوحة على اتساعها وآذان مطرطقة وفم مفغر، على أتم الاستعداد والتهيؤ ليصب عليك كل شيء من كل حدب وصوب دون أن يحق لك إبداء أي نوع من أنواع الاعتراض أو المطالبة بما هو مغاير، ولا أجدني أبالغ في هذا، فبالتأكيد كل من تابع وشاهد أية محطة من هذه المحطات التي أتيت على ذكرها ولو عرضًا سيدرك جيدًا ما أقوله.
يتبقى لي في النهاية أن أضيف أن أغلب، إن لم يكن جميع ما ذكرته، وهو قليل، من محطات هنا هي محطات مفتوحة وليست مشفرة أو تفتح مقابل اشتراك مادي، وهذا يعني أن هناك أيضًا محطات أخرى مشفرة على هذا القمر تبث الكثير من المواد التي لا تقل أهمية وجدية وفنية عما ذكرته هنا، لكنني للأسف الشديد لم يتسنى لي متابعتها إلا لأوقات قصيرة وعلى فترات متباعدة لعجزي عن ملاحقة الكثير مما يستحق المتابعة، وأنني أقتصرت في حديثي هذا على المحطات التليفزيونية فقط الموجودة على القمر الأوروبي ولم أتطرق إلى الإذاعية منها، وهي بالمئات، التي لا تكف ليل نهار عن بث كل ما هو موسيقي فريد سواء كلاسيكي أو غير كلاسيكي، حديث أو قديم.
كذلك، لا أود أن يفهم كلامي، في النهاية، على أنه إنزال أو تقليل من شأن كتاب بورديو الرائع أو أنني أضرب به عرض الحائط كلية، العكس تمامًا، فلا زلت على إدراك واقتناع تام بما أورده بورديو، إلا إنني بعد قراءة الكتاب أكثر من مرة وخوضي لتجربتي الخاصة تلك بت أفرق دائمًا بين كلمتين أو مفردتين بينهما بون شاسع، في رأيي، "المتلقي" و"المشاهد"، فشتان بين من يتلقى ويقبل بما يتلقاه في سلبية تامة، ومن يشاهد وينقب عمّا يشاهده ويتفاعل معه، بين من يسمح لآليات التلقي أن تتلاعب بعقله، ومن يدع عقله يتحكم فيما يشاهده ويُخضِعُ هذه الآليات.

2 comments:

Omar Manjouneh يقول...

أكاد أرى الأفلام (أو على الأقل مشاهد تخيلية منها) التي رآها الأستاذ محمد هاشم أثناء قرائتي لتفاصيل رحلته الكونية البديعة بين ذلك العالم الخفي متناهي الأطراف -للأسف- تجربة لدبعة و ممتعة تستحق أن يقتدى بها بكل تأكيد..أعتقد أني اقتربت من الشعور الذي لمسته لدى الأستاذ محمد،أثناء اكتشاف لعالم العبقري الساحر (بيلا تار) لأول مرة، فيلم الآثر (ايقاعات فيركمايستر) ظلم مسيطرا على تفكيري منذ مشهده الأول، كأ،ي دخلت عالم احتواني حيث لا خروج إلا منه إليه..ظل الهاجس ملح علي حتى بدأت في استكشاف أفلامه التي كانت طريقا لأمثاله الذين ربما لم ألم بعالمهم بما فيه الكفاية حتى الآن، تقلبات سريعة بين (راؤل رويز-أندريه فايد-مورناو- شوهي امامورا-ديفيد هار..) و أدركت بعدها أن لدي الكثير قابعين بين الأرفف في انتظار الاكتشاف و التأمل..تجربتي مع فيلم بيلا تار ظلت مسيطرة حتى تمكنت من ترجمة الفيلم ترجمة عربية كاملة رغم صعوبة المصطلحات الواردة في الحوار و شبه استحالتها على معرفتي في بعض الأحيان لكي يراها كل مقدر حقيقي لهذا الفن..و يبدو المفاد من تلك التجربة البديعة التي خاضها الأستاذ محمد أن المشاهد/القارئ/المستمع الكسول لا يستحق حمل مسؤلية المعرفة و هاجسها..فمن أراد أمامه طريق طويل من الاكتشاف..

تحياتي أستاذ أمير على نشر هذه التجربة الخلاّقة بالفعل. عمر

adel يقول...

الحقيقة مقال هايل وتجربة تستحق المشاركة فعلا

ولو صنفت نفسي هافشل فانا كنت متلقي و بقيت مشاهد بس ساعات بحن للتلقي و الاغاني و الترفيه و السينما الامريكية وكل تلك الاشياء
الوسط :)

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger