الخميس، 2 سبتمبر 2010

يوميات فينيسيا 2: "البجعة السوداء" تشوش المعالجة أضاع الفكرة



فيلم الافتتاح في دورة مهرجان فينيسيا هذا العام هو الفيلم الأمريكي المنتظر "البجعة السوداء" للمخرج المتميز دارين أرونوفسكي، صاحب فيلم "المصارع" الذي شاهدناه هنا قبل عامين، واستطاع أن ينتزع الأسد الذهبي.
لكن شتان ما بين الفيلمين، فعلى حين كان "المصارع" فيلما محدد المعالم، يستند عظم الدراما فيه إلى بناء قوي، شخصياته محدودة ومحكمة وواضحة المعالم والدوافع، تشترك معا في ذلك الإحساس بعدم التحقق، وبالافتقاد إلى الآخر، يعاني فيلم "البجعة" من سيناريو متعدد الشخصيات، محير ومربك في بنائه، ملييء بالعثرات الدرامية، والسقطات في أسلوب الإخراج، فأنت لا تعرف ما إذا كانت تشاهد فيلما من نوع الدراما النفسية، أو من أفلام الرعب، أم الثريلر (أو فيلم الاثارة والترقب)، أو الفيلم الاستعراضي الراقص!
صحيح أن تعدد المستويات يكسب أي فيلم ثراء، لكن ما هو موجود هنا ليس تعدد مستويات في السرد أو في التكثيف الدرامي للشخصيات، وخصوصا الشخصية الرئيسية وهي (نينا- ناتالي بورتمان)، بل هو اضطراب في المعالجة، في السيناريو وفي الإخراج.
المرء يحتار في تفسير سبب اختيار أرونوفسكي هذا الموضوع المربك في الأساس؟ ربما تكون جاذبية عالم الباليه، وما يوحي به من غموض ممزوج بالسحر، بالصراع الداخلي، أي داخل النفس.

والموضوع هو باختصار وبساطة، يدور حول الراقصة الشابة الطموح (نينا) التي تتطلع للحصول على لقب نجمة الفرقة، وأن تضطلع ببطولة العرض القادم للمخرج الطموح توماس الذي سيقدم فيه معالجة جديدة للباليه الروسي الشهير "بحيرة البجع" الذي وضع موسيقاه الموسيقار العبقري تشايكوفسكي (1875-1876). ولكن توماس رجل سمعته تسبقه، فمعروف عنه أنه يقيم علاقات جنسية مع بطلاته. وهو يحاول إقامة مثل هذه العلاقة معها، لكنها ترفض، ليس من زاوية الكرامة، بل لأنها لا تشعر بالجنس كما تشعر به أي فتاة عادية بسبب عقدها الشخصية. ويدفعها توماس إلى التعرف على جسدها، فتمارس الاستمناء، لكن حتى هذه العادة لا تكتمل بسبب عقدة الاحساس بالقهر والخوف من الأم، ويتضح أن الأم كانت ضحية علاقة لم تكتمل مع رجل هجرها، قبل أن تنجب ابنتها التي تخاف عليها كثيرا، وتحاصرها، تريد أن تعرف كل خطوة من خطواتها وتمارس عليها القمع الشديد أحيانا بدافع خوفها هذا، فهي لا تريدها أن تلقى المصير نفسه الذي لقيته.
بعد ذلك، أو انطلاقا من هذه العقدة، تتقاطع الكثير من مشاهد الخيال، مع مشاهد الواقع، فنينا تتخيل أن هناك فتاة منافسة في الفرقة تريد الحصول على الدور الرئيسي وحرمانها منه، ولذلك لا تتردد في اقامة علاقة جنسية كاملة مع توماس، كما تنجح في إغواء نينا نفسها، وتمارس معها السحاق تحت تأثير المخدر، ثم تحصل على الدور، لكن نينا تقتلها وتخفي جثتها، وعندئذ تتحرر وتؤدي العرض الأول لها في دور البجعة السوداء، التي تختلف تماما في عنفوانها عن باقي البجع (الأبيض)، وتنتج وينجح العرض وتعود نينا إلى نفسها وتوازنها بعد أن قتلت في داخلها تلك النرجسية، وذلك القمع الذي تفرضه على نفسها وعلى رغباتها.
في خضم هذا الموضوع هناك عشرات الاستطرادات، والتفاصيل، كما أن هناك تكرارا، وثرثرة بصرية، وميلا إلى النقلات السريعة بين مشاهد لا يمكن للمتفرج أن يعرف مبكرا في الفيلم، ما اذا كانت تدور في الواقع أم في الخيال، بل والأهم، أننا لا نستطيع أن نتعاطف مع الشخصية الرئيسية، ولا أن نفهم سر أزمتها تماما، ولا نفهم لماذا يصدمنا المخرج بين حين وآخر، بما حل عليها من تطور بيولوجي (مثير لتقزز المتفرج)، يجعل جلدها ينتزع بسهولة أو يتقشر، ويجعلها تنزف من أماكن متعددة في جسدها، بل ونراها في أحد المشاهد وقد انكسرت ساقاها، وعندما تغلق الباب على يد أمها، نرى الأم في المشهد التالي وهي سليمة تماما. وهكذا، يساهم هذا المزج المتكرر بين الواقع والخيال، في تشتيت التركيز لأنه مصنوع بطريقة رديئة، أي أنه غير مركب معا ببراعة وفي إيقاع مناسب، يتيح لنا الفرصة للتأمل ولو قليلا، في أزمة تلك الفتاة.
نينا تنزع أيضا بعض الريشات السوداء التي تنبت داخل جلدها، دلالة على أنها بدأت تصاب بهلوسات، تتخيل فيها نفسها وقد أصبحت بجعة، ونكتشف أن النزيف الجلدي الذي قد يكون سببه حك الجلد بالأظافر، قد يكون خيالا أو تجسيدا جسمانيا للاضطراب النفساني، كما لو أن جلد نينا قد أصبح جلدا رقيقا مثل جلد البجعة. بل إننا نراها في المشاهد النهائي وهي ترقص وقد نبت لها جناحان من الريش الأسود تماما مثل جناحي البجعة!
صحيح أن ناتالي بورتمان نجحت كثيرا في التعبير عن تمزق الشخصية، كما نجحت باربره هيرشي في دور الأم، وفنسنت كاسل في دور توماس، وصحيح أن هناك الكثير من المشاهد الجيدة التنفيذ في الفيلم، وصحيح أن المشاهد الأخيرة للاستعراضات تسحر الألباب، لكن المشكلة أن كل هذه العناصر، لم توضع وتولف وتوظف معا في إطار يتمتع بالوحدة الفنية، والسبب، يعود في رأيي إلى ضعف السيناريو وخلوه من الأبعاد التي يمكن أن تساعد على تكثيف الدراما أكثر، كما كان الحال في "المصارع"، فأفلام من هذا النوع تحمل عادة رؤية ما أو فلسفة إنسانية معينة، من وراء تصوير تلك الشخصيات، لكنها لا توجد هكذا من فراغ، وتذهب بالتالي، إلى الفراغ!

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger