الأحد، 16 مايو 2010

يوميات كان 4: وودي ألين ومايك لي.. عوامل مشتركة

أنطوني هوبكنز مع نعومي واطس في كان


المخرج الأمريكي الكبير وودي ألين يحضر الدورة الـ63 من مهرجان كان في إحدى تلك المرات النادرة بعد أن ظل سنوات طويلة يعتذر بل ويمتنع تماما عن حضور المهرجانات الدولية وخصوصا حفل الأوسكار.
هنا، وودي حاضر بفيلمه الجديد "ستقابلين رجلا غريبا طويلا أسمر". في الفيلم عدد من كبار الممثلين والمشاهير مثل نعومي واطس وأنطوني هوبكنز وأنتونيو بانديراس وجوش برولين وجيما جونز وفريدا بنتو (بطلة "مليونير العشوائيات") لكن وودي ألين لا يمثل في فيلمه بل ولا يظهر حى فيه ولو في مشهد واحد كما يفعل كثير من المخرجين الآن، أحدثهم أوليفر ستون.
الفيلم الجديد يتناول من خلال التركيز على مفارقات العلاقة بين الرجال والنساء، وبين الشباب وكبار السن، وهو يعكس بوضوح الأزمة التي تشغل تفكير ألين منذ أن بدأ يصنع الأفلام، أي العلاقة مع المرأة خصوصا، وكيف يمكن أن يصل المرء إلى لحظة التحقق، وهل هناك وقت ينبغي أن يتوقف فيه المرء عن الطموح إلى اللذة، بدعوى أنه صار طاعنا في السن، وهل يمكن أن يبدأ حياة جديدة في سن متأخرة، وأن يحصل على السعادة، أم أن الأمر بأكمله ليس سوى وهم كبير؟
تدور أحداث الفيلم كلها في لندن، والشخصيات في معظمها إنجليزية، ويستغل ألين الكثير من المعالم المميزة لمدينة لندن، كخلفية لأحداث أو مواقف الفيلم.
ويطرح وودي ألين موضوعه، من خلال تداخل الثنائيات التي تقع إما في خيانات متبادلة، أو في مشاكل الانفصال رغبة في البحث عن حياة جديدة ربما تكون موجودة حتى على مستوى ما وراء الطبيعة. ومن خلال هذه الثنائيات المتداخلة والمفارقات العبثية التي تنتج، يجسد الفيلم صعوبة أو ربما، استحالة الوصول إلى لحظة التجلي مع ذلك الشريك "الآخر" المكتمل، بل إن تلك الرغبة العارمة في التحقق يمكن أن تدفع صاحبها أيضا إلى التورط في السرقة والانتحال والكذب، وقد يخسر الشريك القديم والشريك المحتمل، ويخسر نفسه أيضا!
لم أجد جديدا فيما يقدمه وودي ألين في فيلمه الجديد، ولا حتى على صعيد اللغة والشكل السينمائي، بل ووجدته أيضا مغرقا في اعتماده على المشاهد المسرحية التي تدور داخل ديكورات مغلقة معظم الوقت، كما تعتمد على الحوار، الذي لاشك أن ألين يجيد كتابته وصياغته بحيث يوحي بالتلقائية، كما أنه أستاذ كبير في تحريك الممثلين والتحكم في أدائهم، بحيث يجعل الفيلم يبدو كما لو كان حالة ممتدة من "العصاب" الجماعي الذي حل بالشخصيات جميعها، شبابا وكهولا، فالكل يتشارك ويشترك مع وودي ألين في الإحساس بعدم الأمان، بالقلق، بالتوتر الناتج عن العجز عن تحقيق الذات، رغم كل هذا السعي الدائم إلى تحقيقها ولو بالكذب والخيانة.
لكني اسمتعت بلاشك بالأداء التمثيلي الممتاز من فريق الفيلم كله، وإن كان التكرار يصبح السمة الغالبة بعد مرور نحو ساعة من زمن الفيلم، وما بقى لا يضيف سوى المزيد من التأكيد على الفكرة نفسها.

"عام آخر"
حالة العصاب هذه neurosis التي تصيب عادة النساء أكثر من الرجال بعد عبور حاجز منتصف العمر، تتبدى أوضح ما يكون، في فيلم "عام آخر" Another Year للمخرج البريطاني مايك لي، صاحب الحظ السعيد عادة في مهرجان كان والحاصل على السعفة الذهبية من قبل عن "أسرار وأكاذيب"Secrets and Lies (1996).

هنا أيضا، من وسط الطبقة الوسطى الانجليزية، يلتقط مايك لي شخصيات عدة، تجسد هواجس النجاح والفشل، النجاح الذي يخلق علاقة طبيعية صحية بين جيل الآباء وجيل الأبناء، والفشل الذي يجعل هذه العلاقة يشوبها التوتر وانعدام الثقة بل وقدر من العداء أيضا.
من ناحية هناك الطبيبة النفسية "جيري" المتزوجة من المهندس "توم" (الإسمان لا مغزى خاص لهما في السياق!) والإثنان يعيشان معا في منزلهما، يرعيان حديقة المنزل، ويطهيان أصناف الطعام الشهي، ويستضيفان ابنهما الناجح في عمله "جو" الذي يرغب في الارتباط بأخصائية التأهيل الصحي "كاتي"، كما يرحبان دائما باستضافة "ماري" صديقة جيري التي تعمل معها.
ولكن هناك من ناحية أخرى، "كن" صديق توم الذي أوشك على الستين من عمره أو تجاوزها، لكنه يعيش حياة بائسة، يعاني من الوحدة، يدمن على الشراب لعله يجد فيه سلوى لنفسه الممزقة العاجزة. و"كن" هو التوأم الروحي في الفيلم لبطلتنا الأساسية "ماري" التي هي محور هذه الدراما العائلية المشبعة بالكثير من المفارقات الكوميدية أيضا (تماما مثل فيلم وودي ألين، بل هناك الكثير من أوجه التشابه بين الفيلمين). وماري التي تجاوزت الخمسين، مع مسحة جمال زائل، لاتزال تطمع في الحصول على رجل مناسب، ربما يكون شابا يصغرها في العمر، بعد أن فشلت في زواجها مرتين. وهي لا تكف عن الشكوى والتذمز، وتمني النفس بأنها إذا اشترت سيارة فربما تتمكن من تحقيق الذات، لكنها تشتري السيارة لكي تجدها قد أصبحت عبئا عليها، فالمشكلة كما يتضح ليست في السيارة، ولا في اقتناء بيت بدلا من شقة مستأجرة تقيم فيها بمفردها، ولا في العمل فلديها وظيفة في سكرتارية المركز الطبي الذي تعمل به جيري. ولكن أزمتها الحقيقية تنبع من شعورها بالوحدة، ولذا فهي لا تستطيع سوى التردد بصفة دائمة على منزل توم وجيري، تستدفيء بهما، وفي الوقت نفسه، تنظر بنوع من الغيرة والحسد الخفي، إلى حياة الهدوء والصفاء والحب التي يعيشها الزوجان معا. تحاول ماري جاهدة إغواء الإبن الشاب "جو" لكنه يفاجئها عندما يحضر معه خطيبته "كاتي" ويقدمها لها، وهي ترفض "كن" الذي يحاول التودد إليها وتعتبره ربما، أكبر سنا من أن تقبل به، لكنها تنتهي وهي تسعى للتودد لشقيق توم الأرمل المسن الذي فقد زوجته حديثا.
من خلال هذه العلاقات والمواقف التي لا تنتهي أبدا نهاية درامية مغلقة، تماما كما يفعل وودي ألين الذي يبقي نهاية فيلمه أيضا مفتوحة، تنشأ المواقف الإنسانية التي تجعل المتفرج يشعر بالتعاطف مع كل تلك الشخصيات، المتحقق منها، والمعذب، الحائر.

ويقسم مايك لي فيلمه إلى فصول السنة: الربيع والصيف والخريف والشتاء، ولكن دون دلالة خاصة مباشرة تربط بين فصول السنة وبين شخصيات الفيلم، فكما أشرت، نهاية الفيلم تظل مفتوحة، دلالة على استمرار الحياة، والصراع الداخلي مع انفس، وتراكم الهموم، وتوديع أحباء، والاحتفال بأحباء جدد، وهكذا. وربما يكون للعنون مغزى خاص في حياة مايك لي نفسه، ومسيرته الفنية بعد أن بلغ الثامنة والستين من عمره.
إن رؤية مايك لي هنا، هي رؤية أصيلة تميز كل أفلامه التي تقدم لنا بواقعيتها الصارمة، دقائق وتفاصيل الحياة الداخلية في الأسرة الانجليزية، بكل تناقضاتها وعذاباتها ومشاعرها المعلنة والخفية، يريد أن يؤكد هنا، على نغمة أساسية، هي أن التحقق يكمن أساسا في قيمة ما يفعله المرء للآخر، ما يقدمه من مساعدة ومساهمة في المجتمع وما يضيفه من عطاء للعالم. ولذا فإنه يجعل من شخصية الطبيبة النفسية، التي هي الأقدر بحكم خبرتها الخاصة، على فهم لحظات الضعف الإنساني عند "ماري"، هي أيضا الأكثر قدرة أيضا على مد يد العون والمساعدة، دون أن يعني هذا أنها تخلي الفرد من مسؤوليته، بل نراها أيضا تنهر ماري أحيانا، وتطالبها بضرورة مواجهة نفسها والكف عن الهرب عن طريق الخمر، والعيش في أوهامها الشخصية. لكن هذا يتم برقة ولطف ويضفي على الفيلم جمالا خاصا.
لاشيء يحدث في هذا الفيلم عمليا، أي أننا لسنا أمام مواقف وصراعات وتداخل أزمنة أو انتقالات في التاريخ والزمن، بل نحن طيلة الوقت، في الزمن المضارع الحالي، نعيش مع شخصيات من الحياة اليومية، ونراقب كيف تتكلم وتتصرف وتمارس حياتها، تستقبل الضيوف، تشارك في العزاء، تتساند مع بعضها البعض، تتناول الطعام وتثرثر أحيانا أيضا، فيما لا معنى له. وهذا هو النسيج الأساسي الذي يميز عادة أفلام مايك لي. نسيج الواقع المباشر البسيط، وهنا تكمن عظمته.
ومثله مثل وودي ألين، يعتمد أيضا وبدرجة أساسية، على بناء المشهد: الميزانسين، وتحريك الممثلين في الفضاء أو الديكور المحدد، والتعبير بالوجه واليدين ولغة الجسد والعينين، كما يعتمد على الكاميرا الثابتة في معظم الأحوال، والموسيقى الكلاسيكية الحديثة التي لا تطغى في أي وقت على المشهد نفسه وتقحم نفسها عليه، وعلى الحوار الذي يصل إلى أرقى درجات التلقائية، ويعكس الكثير من البراعة والذكاء والخبرة بالبشر.
وأخيرا، على مسؤوليتي الشخصية، أرشح الممثلة العظيمة ليزلي مانفيل لجائزة أحسن ممثلة، سواء هنا في كان، أم في الأوسكار العام القادم. إنها طاقة تمتليء بالحيوية والقدرة على استخدام نغمات صوتها المختلفة، وطريقتها الخاصة في الحديث ونطق الألفاظ، كما تستخدم التعبير بوجهها وتصمد في لقطات الكلوز أب (القريبة)، وتبدو شديدة التلقائية وهي تتحرك في مشاهد طويلة، تتدفق بالحوار الذي يبدو أحيانا كما لو كان أشبه بمونولوج طويل. ولاشك أن خبرتها المسرحية، وخبرتها الخاصة في العمل طويلا من 1980، مع مايك لي، ساعداها على التألق في هذا الفيلم. إنه بلاشك، فيلمها، كما كان "أسرار وأكاذيب" فيلم الممثلة بريندا بليثين. ومن الممكن جدا أيضا أن يحصل الفيلم نفسه على إحدى الجوائز الرئيسية في كان. من يدري!

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger