الثلاثاء، 9 فبراير 2010

نموذجان من سنيما الحساسية الجديدة


هناك بلا أي شك، نوع مما يمكن تسميته بـ"الحساسية السينمائية الجديدة"، تعود إلى السينما المصرية القصيرة، أي الأفلام الروائية التي تقل عن 30 دقيقة. وهي لا تعد مجرد تجارب تقصر في طولها عن الفيلم الروائي الطويل، بل تشكل لغة خاصة للتعبير، ترغب في الحصول على مكانتها الخاصة كما هي، أي باعتبارها شكلا خاصا من أشكال التعبير، مثله في ذلك مثل القصة القصيرة على صعيد الأدب.
المخرجة الشابة أيتين أمين قدمت لنا نموذجين للفيلم القصير كما ينبغي أن يكون. الفيلم الأول هو "راجلها" (10 دقائق) من عام 2006 ، والفيلم الثاني "ربيع 89" من عام 2009 وحصل على شهادة تنويه في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير.
ماذا يقدم هذان الفيلمان من سمات ما نطلق عليها "الحساسية السينمائية الجديدة"؟
أولا هناك السيناريو المكتوب بحيث يراعي تماما فكرة الفيلم القصير، أي الاقتصاد في السرد، وعدم الدخول في متاهات الكتابة المنسابة التي تتطرق إلى الاستطرادات والثرثرة، ثم تختتم الفكرة فجأة بطريقة مبتسرة، بل نلاحظ في الفيلمين، التركيز على الفكرة، والتعبير عن الشخصيات من خلال استخدام اللقطات المنفردة وحركة الكاميرا والانتقال من مشهد إلى آخر، والمزج بين الواقع والخيال، وبين الماضي والحاضر، والانتقال بينهما في سلاسة ووضوح، ومن خلال لغة بلاغية، تميل إلى تكثيف المشاعر وليس إلى التوقف عند حدود الملامح الخارجية.
السمة الثانية أننا بعد مشاهدة الفيلمين لا نلاحظ أن أيا منهما يبدو مضغوطا، أو موجزا، أو مجرد "ملخص" مختصر وكتابة مقتصدة، لمشروع فيلم طويل تعجز الإمكانيات المتوفرة عن تحقيقه، بل هناك إخلاص تام لمحتوى الفيلم القصير ومداه الزمني. ولاشك أن التحكم هنا يعود إلى مهارة المخرجة وهي نفسها كاتبة سيناريو الفيلم الأول عن قصة قصيرة لأهداف سويف، وإلى كاتبة سيناريو الفيلم الثاني وسام سليمان.
هناك أيضا تلك النكهة الحداثية الخاصة في الفيلمين، ليس من حيث التلاعب بالشكل على نحو مفتعل، بل من خلال ذلك الإيقاع الداخلي الخاص، والقدرة على التعبير عن الموضوع باستخدام الممثلين، الصورة، اختيار زوايا التصوير، توليف اللقطات والمشاهد واختيار طريقة الانتقال فيما بينها، بحيث تتجاوز التقليدي، وتخلق عالما جديدا له جاذبيته ورونقه بدون افتعال أو ادعاءات خارجية تأتي من خلال التلاعب المراهق بالصورة والمونتاج.
بساطة الفكرة
ولعل بساطة الفكرة في كلا الفيلمين، مع عمق المضمون، تتوافق مع أهم شروط الفيلم الروائي القصير.
في الفيلم الأول "راجلها" شكل من أشكال التعبير عن محنة المرأة في مجتمع ذكوري متخلف، بعيدا عن الصراخ، وباستخدام الصور واللقطات والتحكم الرائع في الأداء التمثيلي.
الفكرة: امرأة بسيطة من بيئة شعبية تزوج زوجها عليها بامرأة أخرى، لكنها لا تستسلم للأمر الواقع بل ترد الضربة له، فهي تضربه في "رجولته" عندما توحي له بأن الزوجة الشابة الثانية تخونه لكي يطلقها.
ومن المشهد الأول في الفيلم لا تضيع المخرجة وقتا فتلجأ مباشرة للتعبير عن قوة الشخصية الأساسية، وهي الزوجة الأولى، وعن تجربتها في العلاقة مع الرجل- الزوج، بأقل قدر من الكلمات، ومن خلال تكوين الصورة في المشهد، فتصور المرأة وهي جالسة، تغسل بعض الملابس في وعاء تقليدي بينما تمد ساقها ناحية الكاميرا، وقد وضعت في أسفل ساقها المكشوفة في اللقطة، حلية ذهبية، وتتطلع المرأة إلى أعلى، إلى خارج الكادر، وكأنها تتحدث إلى شخصية غريبة عنها قد تكون المخرجة نفسها، في أسلوب أقرب إلى التسجيلي، تروي لها ببساطة ملخص حكايتها مع "راجلها": "كنت في الخامسة عشرة عندما تزوجته، وقالت لي جدتي إنني أستطيع أن أكون مسؤولة عن بيت ورجل، ووقتها شعرت أنني أهم من كل البنات".
وتروي المرأة بعد ذلك كيف تأقلمت مع حياتها كزوجة، تمارس حياتها مع رجل لم تكن تعرفه، وكيف ظلت تتجنبه لأشهر قبل أن تعتاد عليه، ويصبح "راجلها"!
هناك إحساس بـ"التملك" في نظراتها، في طريقتها في التعبير، أو هذا ما ندركه ونحن نتابع نظرات عينيها، ونغمة القوة والثقة في حديثها. إنها ليست من النوع الذي يمكن أن يستسلم بسهولة.
وعندما تتطلع صبيحة اليوم التالي داخل غرفة "ضرتها".. تلك المراة الأخرى التي أتى بها زوجها للعيش معها، تتركز نظراتها على الفراش، الذي تبدو عليه آثار ليلة الأمس. وتعكس نظراتها بوضوح، غيرة وتصميم على أن تفعل شيئا تستعيد به "رجلها".
وهي لا تفوت الوقت، فتفتعل في مشهد شديد الجرأة سينمائيا، ولعله الأول من نوعه في السينما العربية، فعلا حسيا يكون كفيلا بأن يترك على جسد الزوجة الثانية، علامات تشي للزوج فيما بعد بما يوحي بأن الزوجة الثانية تخونه، وهو ما يدفعه إلى التخلص منها.
الجميل في هذا الفيلم أنه يوجز تعقد العلاقة بين الرجل والمرأة على مستوى الشريحة السفلى في المجتمع، دون كلمات كبيرة، ودون استطرادات أو حشو، بل من خلال سيناريو بسيط ولكن بليغ، لا يكرر الأفكار القديمة المستهلكة: فالزوج-رجل مثلا شبه غائب عن الفيلم، لا يظهر سوى في مشهد واحد أو اثنين ، دون أن يتكلم، فهو الحاضر الغائب، فشبح وجوده قائم في تفكير المرأتين: كلتاهما ترغبان في إرضائه، تتحسبان لعودته.. لكن الزوجة الأولى تملك الشخصية القوية للتعامل معه، لدفعه إلى القيام بما ترمي إليه، أي التخلص من الزوجة الثانية رغم شعور خفي لديها بالشفقة نحوها. إلا أنه الزوج أيضا خارج إطار الحياة الزوجية، فمهمته كزوج تتلخص فقط فيما يقوم به في الخارج، ثم القيام بوظيفته كذكر في الداخل.
لكن هذا ليس فيلما عما يعرف بـ"كيد النساء"، رغم أن هذه "التيمة" موجودة تحت سطحه بالطبع، بل هو أساسا، عن القوة التي تكتبسها المرأة من ضعفها الاجتماعي العام، وكيف تستطيع أن تلتف على موقفها، وتتلاعب بالرجل. لكن أساس هذا الفعل (الذي هو في الحقيقة رد فعل) يعكس بوضوح إحساسا واضحا ايضا بالضعف، بالهشاشة، بعدم الأمان.
ويظهر رجل غريب مرة واحدة في الفيلم كطامع في الزوجة الأولى تحت تصور أن زوجها هجرها بزواجه من الثانية، وأنها يمكن بالتالي أن تستسلم له بسهولة، لكنها تظهر له قوة شكيمتها وتتكفل بطرده بقسوة، فهدفها ليس الإشباع الجنسي قط وبأي وسيلة، بل استعادة مكانتها كزوجة، وصاحبة بيت.
تستخدم المخرجة الانتقال من اللقطات المتوسطة إلى القريبة، للتعبير عن الحالة الذهنية للشخصيات (بيان انفعالاتها وردود فعلها).. كما تستخدم زوايا التصوير المعبرة، كأن تصور الزوجة الثانية من زاوية مرتفعة حتى توحي بضعفها أمام الاخرى. كما تعرف أيضا أين تدخل الموسقى دون أن تجعلها تبدو مقحمة، بل تنساب بسلاسة تحت جلد الصورة. وهي تجيد أيضا استخدام مساحات الصمت، والتعبير بالصورة، والتخلص من الحوارات الزائدة التي تشرح، ولا تستطرد في اسختدامها للتعليق الصوتي، بل تستغني عنه في معظم لقطات الفيلم اعتمادا على المنطق الداخلي للقطات والمشاهد.
ولعل من الملامح الجيدة في الفيلم استخدام المخرجة للموسيقى (العود أساسا) بما تولده نغماته من حزن وشجن وأسى، كما تنجح الممثلة الرئيسية في الفيلم سلمى غريب في تجسيد الشخصية بقدرتها على الأداء بطريقة طبيعية إلى درجة التطابق.
ربيع 89
أما الفيلم الثاني "ربيع 89" فيبدو أكثر طموحا، سواء من حيث الشكل، وطريقة السرد، والتعامل مع الشخصيات، وأيضا الموضوع.
هنا تطور المخرجة أدواتها كثيرا، وتحاول أن تمد تجربتها في فيلمها الأول على استقامتها. فهذا أيضا موضوع يدور أساسا، في عالم الأنثى، الفتاة، من خلال الخيانات والأكاذيب الصغيرة والصور الرومانسية الخيالية التي تسيطر على الفتيات في سن المراهقة أو وهن على أعتاب اجتياز عالم الانوثة، تلك الفترة المضطربة بأحاسيسها ومشاعرها وعلاقتها بالأسرار الداخلية للشخصية، بعالمها الخاص، ونظرتها الخاصة أيضا للعالم، خاصة إذا كانت من تلك الشخصيات التي تخلق لها علاقة بعالم الخيال، الأدب، والقراءة عموما.
وقد اختارت الكاتبة أن تدور أحدث الفيلم في أواخر الثمانينيات، 1989، ربما في إحالة مباشرة إلى ذكرياتها الشخصية، أو إلى عالم انقضى، بأزيائه، وصوره، وأنماطه، بل وذاكرته.
وكما كان الفيلم الأول يدور حول امرأتين، يدور الفيلم الثاني حول فتاتين- طالبتين في الثانوية العامة "كاميليا" و"سارة"، كيف تروي الثانية للأولى حكايات وقصصا عن علاقة حب خيالية لها بشاب تغرم به كما تغرم به كل فتيات المدرسة، وكيف تحاول الفتاة الأولى استمالة هذا الشاب تجاهها وانتزاعه من تلك العلاقة مع صديقتها، ثم تبدأ في الشعور بتأنيب الضمير لخيانتها لصديقتها كما تتصور، بينما تبدأ صديقتها "سارة" في المبالغة باختلاق قصص وتفاصيل مختلقة عن تطور علاقتها بالشب "يحيى إلى أن تبدأ في الشعور بتأنيب بالضمير لكونها جعلت صديقتها تعيش في الخيال من خلال تفاصيل قصة لم تحدث!
من عالم الطبقة الوسطى
الفكرة دون شك، مبتكرة وجريئة أيضا، وتتسلل بصدق إلى ذلك العالم الذي لم يقدم من قبل في السينما كما ينبغي، عالم المراهقات من بنات الطبقة الوسطى، أي قبل تدهورها السريع خلال العشرين عاما الأخيرة، وكيف كانت أفكارها، وأشكالها، وازياؤها، وصورها، وطريقة فتياتها في الحديث، مختلفة، وبشكل لافت هنا، الحوار في الفيلم الذي يبدو أعلى بالتأكيد من لغة الحوار السائدة اليوم، في السينما والواقع.
وكما كانت هناك جرأة خاصة في تصوير العلاقات في الفيلم الأول، هنا أيضا تجتاز المخرجة العتبات التقليدية لتقدم مشاهدها بجرأة ولكن برونق وأناقة كبيرتين، في التعبير بالكاميرا والأداء الصامت على خلفية التعليق الصوتي الذي يأتي من خارج الصورة، فهي مثلا تستخدم الكاميرا لخلق علاقة حميمية مع المكان، ومع الأشياء الاستكمالية في الصورة، بين شخصية كاميليا ذات الأحلام الخاصة، التي تطرح تساؤلات تكشف عن حساسيتها الخاصة، كما تتوقف أمام علامات لا يمكنها استيعابها: حول الأم التي تعيش في عالمها الخاص، في هواجسها، تحدث نفسها بينما تقوم بتنظيف زجاج نافذة، وكاميليا تتأمل في أوراقها ومجلاتها وكتبها المبعثرة، تحاول أن تمسك القلم لتكتب لكنها تعجز، وتتراجع الكاميرا من لقطة قريبة إلى لقطة متوسطة، وتنزل الموسيقى التي تشي بالتوتر الداخلي، بعدم الثقة، بالاهتزازة النفسية، وضربات البيانو، تضرب على الألم المكتوم، مع التطلع إلى التحقق في عالم يبدو مغلقا.
فتاة مضطربة لكن هذا الاضطراب يجسد اختلافها عن المحيط، احساسها الشخصي بالعالم أن كل يوم يمر يبقى منه شيء ما، كلمة معينة، صوت، أو رائحة، وردة أو ورقة. إيقاع المشهد يأتي من حركة الكاميرا التي تتجول في لقطة قريبة متحركة تمسح الأشياء الحميمة لكاميليا، ثم تصعد في اضطراب ووجل إلى وجهها الذي تبدو عليه المعاناة من أجل الفهم، فهم مشاعرها.. قبل أن تعود الكاميرا إليها في لقطة متوسطة من ظهرها، ثم تبتعد تدريجيا مع نزول الموسيقى وتصاعدها حتى تختفي الصورة تدريجيا في اظلام تدريجي..
ولاشك أن المخرجة تجيد استخدام مساحات الصمت مع تحرك الكاميرا، أو تستعين بالمونولوج الداخلي ببراعة واقتصاد، وبدون ثرثرة، أو وصف لما نراه في الصورة، بل لتكثيف اللحظة، وكأنما الفتاة تسترجع لحظات من الماضي أيضا. مفردات لغة الواقعية الشعرية.
وتستخدم أيتين المونتاج بطريقة تثري السرد وتتسق تماما مع طابع الفيلم، بتجسيد التناقض بين شريط الصوت وشريط الصورة، عندما نرى، على سبيل المثال، سارة تروي لكاميليا تفاصيل عن علاقتها بـ "يحيى": كيف تمسك يده وتسير معه في الشارع، غير مبالية بنظرات الآخرين، وكيف تذهب معه إلى السينما، بينما نرى من خلال شريط الصورة كاميليا تتخيل مع يحيى، أي على مستوى خيالها الشخصي، تسير معه ثم تتوقف معه أمام باب منزل تفتحه صاحبته وتنظر للإثنين في استنكار، ثم كيف تغادر معه مصعدا، غير مبالية بنظرة الاستنكار في عيني امرأة تتأهب لركوب المصعد، ثم كيف تجلس معه في السينما، تستند بكتفها على جسده، وهكذا.
وبعد أن تكتشف سارة أن كاميليا هي التي سرقت حافظتها لكي تأخذ منها صورة حبيبها يحيى، تقرر سارة بعد أن يبتعد يحيى عنها أن تنسج لكاميليا حكايات وهمية عن تعمق علاقة الحب بينهما، وتستمتع بانعكاس حكاياتها وأكاذيبها الصغيرة على وجه كاميليا.
والفيلم يبدا بسرقة الصورة، ولا نعرف سر الصورة، وهل الإهداء المكتوب عليها حقيقي أم مختلق، إلا فيما بعد في الثلث الأخير من الفيلم.
إنها صورة لعالم المراهقات في أدق تفاصيله، بأسلوب فني رصين، يبتعد عن النمطية والمباشرة، فهناك على سبيل المثال، تصوير لبداية تفتح المشاعر الجنسية، ولكن بدون أدنى إحساس بالغلظة، بل من خلال لقطات موحية، تركز أساسا على حركة اليد، على ارتجافة العين، على النظرات، والارتخاء الجسدي، ثم الإظلام التدريجي وهكذا.
هناك أيضا ذلك الإيقاع الرقيق المنساب في تدفق وسلاسة، والاستخدام المحكم والدقيق دون أي إفراط، للتعليق الصوتي، الذي ينتقل في القسم الأخير من الفيلم ليصبح من وجهة نظر سارة، بعد أن انتقلت اللعبة إلى يدها لتتحكم هي في مشاعر الطرف الثاني.
هل هي لعبة تدميرية؟ هل هي محاولة من جانب طرف من الطرفين لإحكام سيطرته على الطرف الثاني؟
الواضح أن الفيلم لا يكترث كثيرا بالإجابة عن أسئلة من هذا النوع، فلا يوجد هنا صراع بالمعنى المباشر السائد، بل صراع داخلي، ينشأ داخل الشخصية ويتطور في علاقتها بالآخر، وبالعالم، خلال مرورها بتجربة العبور من الطفولة إلى الأنوثة، إلى الإحساس بأنوثتها، وانعكاس أدب الخيال الذي تقرأه على طريقتها في الإحساس بالدنيا أيضا.
هنا بلاشك مزيج من التجربة الشخصية، والتأملات في عالم كان متميزا بتفاصيله، عالم 89 الذي ربما لم يعد قائما اليوم.
أخيرا، لاشك أن أيتين أمين يمكن أن تثري السينما الروائية المصرية بأسلوبها المتميز، ودقة اختيارها لمواضيع أفلامها، في مجال الفيلم الروائي الطويل، والمهم أن تحافظ على عالمها الخاص، وألا تتنازل أمام ضغوط السينما التجارية السائدة بشروطها الضارية، وهو أمر ليس سهلا لو تعلمون!

1 comments:

نجلاء يونس يقول...

شكرًا أ آيتن
شكرًا أ أمير

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger