الخميس، 26 نوفمبر 2009

"شيوعيين كنا": رؤية غير مكتملة لتجربة ثرية

لم أستوعب على الإطلاق أن يعرض مهرجان أبو ظبي عملا لم يكتمل بعد هو الفيلم غير الروائي "شيوعيين كنا" للمخرج اللبناني ماهر أبي سمرا ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية، بل ولم أفهم أن يظهر مخرجه قبل العرض لتقديم فيلمه فيطالبنا بأن نغض الطرف عن عدم اكتمال الفيلم ولا نحكم عليه بما نراه لأنه قد يتغير في بنائه!
كان من الممكن عرض الفيلم الذي لم يكتمل عمل المونتاج له بشكل نهائي ضمن "ورشة" عمل للدراسين والهواة لمناقشة طريقة تشكل رؤية مخرجه أثناء العمل، فربما تفيد المناقشة المشاركين، كما تفيد المخرج في التوصل إلى شكل نهائي لفيلمه، لكن أن يتسابق الفيلم مع غيره من الأفلام الأخرى "المكتملة" فهذا أمر ليس من الممكن قبوله ببساطة هكذا.. وكان ما قفز إلى ذهني على الفور بعد تقديم المخرج لـ"مشروع" فيلمه السؤال التالي: ولماذا قبلت أنت بعرض فيلمك الذي لم ينته بعد، ولماذا جئت به إلينا إذن إذا لم تتمكن من إنهاء العمل فيه بعد "بل ولماذا قبلت أيضا أن يشارك في المسابقة؟
وعفوا، فإذا كان الفيلم قد عرض عرضا رسميا في مسابقة دولية فقد أصبح يحق لنا أن نحكم عليه، ولو أيضا بشكل مبدئي"أي كنوع من السباحة في الأفكار على أن نعاود تناوله نقديا بعد أن يكتمل إذا جاء مغايرا لما شاهدناه.
حسب ما أعلنه المهرجان فإن "شيوعيين كنا" أحد ثلاثة افلام قام بتمويلها المهرجان في خطوة ستتخذ مستقبلا شكلا أكثر رسوخا من خلال صندوق خاص يرصد أموالا لدعم الأفلام العربية والمحلية. وهو اتجاه جيد دون شك، وإن كان يتعين على القائمين على أمر هذا الصندوق إتاحة الفرص لكل التجارب الجادة على أسس فنية تماما بعيدة عن المجاملات أو التحيز العرقي.. آفة هذا النوع من الصناديق العربية كما نعرفها!
ومن خلال مجموعة "الاسكتشات" أو الفصول الخمسة المتعاقبة التي شاهدناها يمكن القول إن هذا العمل جاء على العكس تماما مما كان المرء يتوقع أو يأمل.

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

فيلم "ما هتفت لغيرها" لمحمد سويد

لعل أهم ملامح فيلم "ما هتفت لغيرها" وهو من نوع الفيلم غير الخيالي، أي انه يمزج بين التسجيلي والوثائقي والروائي، أنه أولا يعكس التجربة الشخصية لمخرجه وصانعه وهو الناقد والمخرج اللبناني محمد سويد، وهو بهذا المعنى يعد أحد أفلام "السيرة الذاتية.
وثانيا: يعكس الفيلم بوضوح هواجس مثقف كان مسيسا حتى النخاع في الماضي، حين ارتبط بحركة اليسار من جهة، وبحركة فتح الفلسطينية من جهة أخرى، مزواجا بين الأفكار الأممية، والأفكار المتعلقة بالتحرر الوطني، وهي مزواجة لها مبرراتها فقد كان خطاب الثور ة الفلسطينية في تلك الفترة من أواخر الستينيات حتى منتصف السبعينيات، خطابا يمزج بين الأفكار اليسارية والوطنية. وكان الانضمام لحركة "علمانية" مهربا من التيار الطائفي الجارف الذي كان سائدا في الساحة اللبنانية، وإن كان الفيلم لا يهتم كثيرا بهذه النقطة. ولكنه بهذا المعنى فيلم مثقف تبدو نكهة الثقافة والتفلسف فيه عالية، وأحيانا تلتبس الأمور بعض الشيء بسبب الطموح الكبير من جانب المخرج لكي يروي كل شيء في سياق فني مبتكر.

الجمعة، 20 نوفمبر 2009

مهرجانات السينما و"وهم" العالمية!


يغالط البعض أنفسهم عند الكتابة عن المهرجانات "الدولية"، وخصوصا عند المقارنة الدائمة التي يدمنون عليها مع مهرجان "كان" السينمائي، المرجعية الأساسية عندهم.
هناك من يروج في الفترة الأخيرة مثلا، إلى أن مهرجان الشرق الأوسط (أو أبو ظبي) السينمائي تراجع عن الطابع العالمي، واصبح مهرجانا اقليميا، فقط لمجرد أنه أصبح يخصص جوائز لأفضل الأفلام من تلك المنطقة التي يحمل اسمها بينما كان- حسب ما يزعم هؤلاء- خلال الدورتين السابقتين دوليا، أي يفتتح ويختتم بفيلمين من أوروبا وأمريكا.
وليس هذا دفاعا عن مهرجان ابو ظبي أو عن غيره من المهرجانات التي تقام في العالم العربي، فكلها مهرجانات لنا عليها الكثير من التساؤلات والملاحظات، لكن الأمر يتعلق فقط بنقطة العالمية التي انبرى البعض للدفاع عنها من منطق أراه خاطئا بل ومضللا في الفترة الأخيرة. وهؤلاء يعرفون جيدا أنك يمكنك فقط أن تصبح عالميا إذا كنت أوروبيا أو أمريكيا. والفيلم العالمي هو في الحقيقة الفيلم الأمريكي فقط بحكم انتشار شبكات توزيع الأفلام الأمريكية في العالم وقدرة الشركات الامريكية على توفير ميزانيات ضخمة لإنتاج أفلام تتمتع بالقدرة على الإبهار.
وينسى هؤلاء الذين لا يكفون عن الترويج لوهم العالمية، أن مهرجان كان وغيره من المهرجانات الأوروبية الكبرى مثل فينيسيا وبرلين، هي مهرجانات "أوروبية- أمريكية" في المقام الأول، أي أن هدفها الأساسي هو الترويج للأفلام الأوروبية والأمريكية (من الولايات المتحدة تحديدا وليس من أمريكا الشمالية عموما ولا من أمريكا اللاتينية خصوصا). ولا يمنع هذا الهدف والتوجه بطبيعة الحال من وجود "بعض الأفلام" من القارات الثلاث: آسيا وافريقيا أمريكا اللاتينية.
ليس هناك شيء اسمه "مهرجان دولي" هكذا على إطلاقه، بل إن كل مهرجان له توجهاته وأجندته الخاصة واهدافه، فلن يدافع مهرجان برلين مثلا عن سينما المغرب العربي، ولن يهتم مهرجان هونج كونج بالترويج للأفلام المصرية، وأما نحن فنموت في فكرة أن نفنى في الآخر، أن نخصص له أضعاف ما نخصص لأنفسنا، وأن نحتفي به، ونمنح سينماه الجوائز، ونأتي برموز سينماه من مخرجين وممثلين وراقصين وراقصات وغيرهم وغيرهن، لكي يضفوا علينا صفة "العالمية" التي نتهافت للحصول عليها بأي ثمن، فوجود ممثل من الدرجة الثالثة من هوليوود أهم مائة مرة من أعظم مخرج عربي، وتواجد راقصة مبتذلة يثير اهتمامنا أكثر من أي ناقد أو مفكر سينمائي، لأنها ضمنت لنا "العالمية" أو هكذا نتخيل.. في حين أن أمم العالم تضحك علينا. والذي يكتب هذا الكلام رجل يعيش في قلب أوروبا منذ ربع قرن أو اكثر، ويعرف تماما عم يكتب!

وقد سبق أن سألت مدير مهرجان روما لأفلام التليفزيون (في يوليو الماضي) سؤالا مباشرا يتعلق باهمال السينما القادمة من العالم العربي والشرق الأوسط عموما، فقال ان هناك فيلما من ايران، ولكن اهتمامهم الأساسي هو "ابراز الأعمال التي تمثل أوروبا لأن هذه هي ثقافتنا ومجال اهتمام جمهورنا" حسب نص كلماته حرفيا في لقاء مسجل تليفزيونيا!
الثابت أن نسبة الأفلام الأمريكية والأوروبية في برامج مهرجان "كان" مجتمعة مثلا تصل إلى نحو 85 في المائة وقد ترتفع إلى 90 في المائة في بعض البرامج أو إلى 100 في المائة.
مسابقة مهرجان كان الأخيرة مثلا ضمت 20 فيلما منها 14 فيلما أوروبيا وأمريكيا، و6 أفلام من الإنتاج الفرنسي وان حملت جنسية مخرجيها ومنها فيلم "الزمن الباقي" لإيليا سليمان.
وعرض خارج المسابقة في "كان" 8 أفلام كلها من أوروبا والولايات المتحدة أي بنسبة 100 في المائة.
وعرض في مسابقة مهرجان فينيسيا 25 فيلما منها 18 فيلما من أوروبا وأمريكا، وفيلمان من الإنتاج الأوروبي المشترك. وعرض في برنامج "أيام فينيسيا" وهو برنامج مواز 16 فيلما كلها من الانتاج الأوروبي والأمريكي بما فيها فيلم "حراقة" لمرزاق علواش.. فعن أي عالمية نتكلم إذن!
وليس صحيحا مثلا أن تخصيص مسابقات للأفلام العربية في مهرجاني القاهرة ودمشق يفقدهما الطابع العالمي، فهناك مسابقة مماثلة للأفلام الايطالية في مهرجان فينيسيا، وهناك برامج سنوية للاحتفاء بتاريخ السينما الإيطالية (ريتروسبكتيف) وكذلك برنامج "آفاق السينما الفرنسية" في مهرجان كان السينمائي، دون أن يقلل هذا من "دولية" هذين المهرجانين في نظر هؤلاء الخبراء!
وكل مهرجانات العالم الكبرى ذات هوية محددة فمهرجان موسكو مثلا يهتم بسينما شرق أوروبا رغم عالميته، أي رغم أن مسابقته تضم أفلاما من أوروبا وأمريكا وغيرهما أيضا، ومهرجان طوكيو يهتم بالسينما الآسيوية رغم عالميته، وزاوية مهرجان تسالونيك زاوية بحر- متوسطية رغم عالميته، ومهرجان سان سباستيان أوروبي الهوى والتوجه رغم عالميته، ومهرجان ترايبيكا أمريكي التوجه رغم عالميته.. وأرجو أن تكون الفكرة قد وضحت. ويمكن لمن يرغب في التدقيق مراجعة قوائم أفلام مسابقات عدد من تلك المهرجانات مثل كان وفينيسيا وبرلين وطوكيو وموسكو لكي يدرك صحة ما نقوله هنا.

ومهرجان قرطاج السينمائي العريق كان دائما ولايزال، يهتم بالسينما الافريقية والعربية (التي يخصص لها مسابقته) في حين يعرض الأفلام من كافة أرجاء العالم بما فيها الأفلام الأمريكية المتميزة. وكان مهرجان دمشق يركز على الزاوية الآسيوية العربية وسينما العالم الثالث أو القارات الثلاث عموما قبل أن يأتي السيد محمد الأحمد ليحوله إلى كرنفال "كوزموبوليتاني" باسم الدولية والعالمية، وكأن السينما السورية بانتاجها المحدود يمكنها منافسة السينما الأمريكية مثلا في مسابقة "دولية"!
إذن ليس عيبا أن يصبح أي مهرجان عربي مهرجانا دوليا ويهتم في الوقت نفسه، بالزاوية الشرق أوسطية أو العربية، بل إن من المعيب أن يظهر مهرجان "دولي"- أي مهرجان- يهمل السينما الاقليمية والوطنية التي يظهر في محيطها، والمعروف أن أي مهرجان يسعى أساسا إلى دعم سينماه الوطنية أولا.
إننا نوجد على "الهامش" في مهرجانات السينما التي تسمى "عالمية" أي تلك الأوروبية، فلماذا نقبل أن نظل على الهامش أيضا في هذه المهرجانات "الدولية" التي تقام في منطقتنا!

الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

صدور كتاب "الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب"


صدر أخيرا كتاب "الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب" عن مكتبة مدبولي في القاهرة من تأليف كاتب هذه السطور أمير العمري. وأنشر هنا المقدمة التي كتبتها لتقديم الكتاب إلى القراء. وهو كتاب مختلف عن كتبي في النقد السينمائي، كما أنه موجه اساسا للشباب الذي لم يعاصر الأحداث وولادة الظاهرة في قلب الزخم الثقافي والسياسي ثم انتشارها في محيط الطلاب والمثقفين في زمن السادات. وأتمنى أن ينال الاهتمام من كل المهتمين وخصوصل الذين يقرأون لي في النقد السينمائي، حتى يمكن الحكم هلى تجربتي في الكتابة الأخرى. وجدير بالذكر أنني كنت قد بدأت نشر حلفات من هذا الكتاب في هذه المدونة قبل الاتفاق على نشره، ونشرت ثلاث حلقات لم تعد حاليا موجودة بعد ن قمت برفعها من المدونة هنا حسب الاتفاق مع الناشر.
هنا مقدمة الكتاب:

"ليس هذا كتابا من كتب سير الأعلام، أي أنه ليس سردا أدبيا أو تاريخيا، لحياة المغني الشعبي العظيم، الشيخ إمام عيسى، الذي لمع نجمه في مصر والعالم العربي لأكثر من 25 عاما وأصبح بحق، فنان الشعب وخليفة سيد درويش العظيم، بأغانيه وأناشيده وألحانه ومواقفه الصلبة في مواجهة كل أشكال الإغراء والتخويف والقمع.
وعندما بدأت كتابة صفحات هذا الكتاب لم يكن في نيتي أن يكون كتابا متكاملا شاملا عن الشيخ إمام من جميع الزوايا والجوانب، بل كان قصارى ما آمل فيه، أن يأتي معبرا عن رؤيتي الشخصية، وتسجيلا أمينا لذكرياتي الخاصة عن الشيخ إمام، وعن تأثري الشخصي بأغانيه، وتأثيره في أبناء جيلي وعصري من شباب الجامعة المصرية في زمن الحركة الطلابية "الثورية" العظيمة في السبعينيات.
وكنت أيضا أطمح من خلال ما كتبته من صفحات بدأتها كحديث للذكريات اتسعت فيما بعد لتصبح عددا من الفصول أو المحطات توقفت أمامها واحدة بعد أخرى، أن أقدم للقاريء جزءا من تاريخ الحركة الوطنية المصرية من خلال خصوصية ظاهرة "الشيخ إمام- أحمد فؤاد نجم" وعلاقتها بالحركة الجماهيرية الطلابية والشعبية في مصر، وأن أضع الظاهرة في إطار عصرها، وأناقش أبعادها وتضاريسها وما انتهت إليه اليوم.
وفي الصفحات التي سيطالعها القاريء هنا سيجد علاقة متلازمة بين الذاتي والموضوعي، وبين السياسي والفني، وبين الماضي والحاضر، وبين التأملات الشخصية والتحليل الذي يلزم نفسه بالبحث في الحقائق وتسليط الأضواء على بعض ما تجنب الكثيرون من قبل الاقتراب منه، تفاديا لما يمكن أن ينتج عنه من حرج، بين الغناء كفن وكتابة القصيدة الشعبية كشكل خاص من أشكال التعبير، وبين التحريض والهجاء السياسي خلال ما يعتبر بحق، "عصر الثورة والغضب".
وفي سياق "التأملات" واسترجاع الماضي ورد ذكر عشرات الأسماء لشخصيات لعبت دورا بارزا في مسار الحركة السياسية والثقافية في مصر، من طلاب في الجامعة تصدوا لقيادة حركة التعبير عن الرفض في عهد الرئيس أنور السادات في فترة من أكثر فترات الحياة السياسية المصرية سخونة فيما بين الحربين، أي بين حرب يونيو 1967 وحرب أكتوبر 1973، ومثقفين تباينت مواقفهم خلال سنوات الاستقطاب الحاد بين اليمين واليسار، بين الانحياز لحركة الشارع أو القيام بدور تصورونه إيجابيا، بالقرب من مواقع السلطة.
وسط هذه الأمواج كلها، وقف الشيخ إمام بقوته الخاصة في التعبير وعبقريته في الأداء، وصمد في وجه كل أشكال القمع والتجاهل والنكران والاستنكار والشجب، وصمد معه شاعره الأول الكبير أحمد فؤاد نجم، الذي زود تلك الظاهرة الخاصة التي لا تتكرر كثيرا في حياتنا، بوقودها المحرك من الأشعار التي لاتزال صامدة في وجه الزمن، برقتها وعنفها، وبقدرتها على إثارة الشجن وشحن النفوس بالغضب والثورة، وبسحرها الخاص وتمكنها من إثارة التفكير وإيقاظ الوعي أيضا، دون أن تفقد أبدا جمالها ورونقها الداخلي الخاص.
ولعل أكثر ما كان يشغلني وأنا أكتب هذه الصفحات، أن أكون أمينا في نقل إحساسي الشخصي الخاص بصدق، والتعبير عما كان يجول في خاطري وأنا أستمع للشيخ إمام وأشارك في الكثير من أمسياته وحفلاته، كما كان يشغلني أيضا أن أنقل مشاعر وأحاسيس الآخرين، لكي أجسد تأثير أغاني الشيخ إمام، وأن أبحث أيضا في تفاصيل ظاهرة إمام- نجم التي ظلت متوترة دوما بالسلطة في عصر عبد الناصر ثم في عصر السادات، قبل أن يتم نفي الظاهرة واستبعادها من ساحة التأثير بعد ذلك في منتصف الثمانينيات.
وقد اكتفيت فقط ببعض الإشارات عن حياة الشيخ إمام وعلاقته الأولية بالموسيقى وكيف نما حسه الفني وعلاقته بنجم، وغير ذلك، وتجنبت الكتابة تفصيلا في هذه الأمور التي صدرت حولها بعض الكتب، وكثير من الدراسات والمقالات الصحفية والمقابلات والأحاديث المسجلة التي بثت في عدد من المحطات التليفزيونية الفضائية والأرضية.
لقد انصب اهتمامي الأكبر هنا على البحث في الظاهرة، في ضوء ما وقع من متغيرات في الفضاء السياسي والثقافي المصري، والبحث في معاني عدد من الأشعار والأغاني البارزة التي حفرت لنا مسارا فريدا طوال فترة إبداع إمام- نجم، حتى أصبحت بعض أغاني الشيخ إمام توصف أحيانا بأنها أهم من قراءة مائة كتاب عن مصر، فقد تعلمنا منها كيف يكون لحب مصر معنى حقيقي مجسد ومصور، وليس مجرد أطياف غامضة لشعار نردده بمعزل عن الناس الموجودين في الشارع وفي المصنع وفي الحقل، بل وفي كل مكان على أرض مصر.
وقصارى ما آمل إليه من وراء إصدار هذا الكتاب أن تصل كلمتي إلى الأجيال الأحدث، التي لم تقترب من تلك الظاهرة ولم تعايشها عن قرب كما أتيح لأبناء جيلي، وأن تتعرف هذه الأجيال الجديدة على جزء بارز من التراث الغنائي والفني الشعبي المصري، الذي لا تتاح له الفرصة عادة للوصول للناس عبر أجهزة الإعلام السائدة.. هذا "الغناء الآخر" هو جوهر موضوع هذا الكتاب الذي أتمنى أن يجد طريقه في النهاية إلى قارئه الطبيعي".

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

صور من الزمن الذي كان

الناقد سمير فريد يلقي كلمة لاعلان الجوائز في حين ينصت رئيس الجمعية
أحمد كامل مرسي ونائبه مصطفى درويش والأمين العام
فتحي فرج (أقصى اليمين) وأمين الصندوق أحمد رافت بهجت

من اليمين إلى اليسار يوسف شريف رزق الله ثم فتحي فرج ثم أحمد رافت بهجت

أحمد كامل مرسي يسلم شهادة جائزة الجمعية لأحسن فيلم للمخرج محمد راضي عن فيلمه "أبناء الصمت"

أنشر هنا مجموعة من الصور التي عثرت عليها أخيرا في أرشيفي الشخصي وأظنها تعود إلى منتصف السبعينيتات أو تحديدا عام 1974، وهي لعدد من أعضاء أول مجلس إدارة لجمعية نقاد السينما المصريين التي تأسست عام 1972 اثناء حفل توزيع الجوائز السنوية للجمعية.
ويظهر في الصور رئيس الجمعية الناقد والمخرج المخضرم الراحل أحمد كامل مرسي، وذلك تذكرة بزمن ولى وإن كان كل الذين يظهرون في الصور على قيد الحياة باستثناء المرحومين: كامل مرسي وفتحي فرج، أطال الله في عمر الباقين ومتعهم بالصحة والعافية. لم أكن حاضرا هذا الاحتفال الذي أتذكر أنه أقيم بمناسبة مرور عامين على تأسيس الجمعية، فلم أكن قد انضممت لها بعد، وجاء انضمامي فيما بعد بعدة أشهر.
وقد رويت قصتي كاملة مع هذه الجمعية وتاريخ الصراعات داخلها وما حل بها من تطور في ضوء الأحداث السياسية والثقافية الصاخبة التي شهدتها مصر في السبعينيات خصوصا، وذلك ضمن فصل طويل من فصول كتابي "حياة في السينما" الذي أروي فيه الكثير من التفاصيل الخافية عن علاقة السينما بالمثقفين بالأجواء السياسية، وعن علاقتي الشخصية بعشرات الأشخاص، وشهادتي على الكثير من الأحداث والوقائع. والكتاب صدر أخيرا عن مكتبة مدبولي في القاهرة.
وهذه المجموعة من الصور لم تنشر في الكتاب لأنني لم أكن قد عثرت عليها رغم كل ما بذلته من جهد، ورغم أنني كنت أرغب بشدة تحديدا في نشر صورة فتحي فرج الذي كتبت عنه كثيرا، لكن الصور كانت مختفية في حقيبة عثرت عليها أخيرا في مسكني في لندن!

السبت، 14 نوفمبر 2009

فيلم "هليوبوليس": الإبداع قائم رغم العجز


في سياق التجارب الجديدة لتيار "السينما المستقلة" في مصر التي تقودها مجموعة من شباب السينمائيين مسلحين بكاميرا "الديجيتال"، وبسيناريوهات مكتوبة بشكل مباشر للسينما من تأليفهم، يخرج فيلم "هليوبوليس" للمخرج احمد عبد الله من معطف فيلم "عين شمس" لابراهيم البطوط.
والفيلم هو الأول لمخرجه الشاب، وهو مونتير فيلم "عين شمس"، ومنتج الفيلم شريف مندور هو نفسه منتج "عين شمس"، والطريقة التي صور بها هي نفسها، ثم جرى تحويله أيضا إلى نسخة من مقاس 35 مم، والموضوع ينتقل من حي (عين شمس) الشعبي، إلى حي مصر الجديدة الذي يعد أحد الأحياء الراقية أو هكذا كان الحال قبل زحف قيم التدهور. وهو يعرف في اللغة الانجليزية (أو ربما في الهيروغليفية) باسم هليوبوليس، وفكرة الخراب العام عندما ينعكس على مصائر الأفراد بقسوة هي نفس الفكرة التي يتردد صداها في الفيلمين، بل وفي فيلم "بصرة" لأحمد رشوان ضمن الموجة نفسها، أي موجة السينما الشابة الجديدة.


من رسائل الأصدقاء: أساليب التمثيل والفيلم كإبداع فردي (مع إضافة وتصويب)

بعد أن نشرت الردود المنشورة أسفل هذا الكلام وصلتني الرسالة التالية من (محمد التوبي) يصحح لي بعض المعلومات التي وردت في ردي.. وأشكر كاتبها كثيرا وأقول له إن ما لدي من معلومات تعتمد على ما قرأته في الماضي أي من الذاكرة، وربما يكون مفيدا عمل بحث خاص في موضوع التمثيل مستقبلا، وليس عيبا على الإطلاق أن يخطيء المرء بل العيب كل العيب في تجاهل التصويب والتقويم والاعتراف بالخطأ وانا هنا أعترف بالخطأ وسأراجع معلوماتي في هذا المجال.. وهذه هي فائدة الجدل المفيد.. وليس هناك في النهاية، من يعرف كل شيء بل إننا جميعا نحاول ونجتهد.. اليس كذلك؟ (أ. ع).
في جوابك على أسئلة القراء أردت أن أعقب على الموضوع الذي يخص التمثيل بالنسبة لبراندو وستراسبيرغ فليس بينهما صلة الأستاذ بالتلميذ . - براندو لم يدرس عند لي ستراسبيرغ كما ذكرت -منهج ستانسلافسكاي أبرز ناشريه ستراسبيريرغ ومن تلاميذه آل باتشينو ولكن براندو تتلمذ عند ستيلا أدلير المنافسة لستراسبيرغ المرأة التي درس عندها كذلك روبرت دي نيرو أيضا . التالي من وايكيبيديا :: في عام 1943، وصل براندو إلى نيويورك؛ وسجّل لفصل دراسي في الورشة الدرامية للمدرسة الجديدة للبحث الإجتماعي، الموجّهة من قبل المهاجر الألماني إرون بيسكاتور. معلّمته في الورشة كانت ستيلا أدلر. ستيلا أدلر عاشت في موسكو في أوائل الثلاثينات، ودرست مع قسطانطين ستانيسلافسكاي في مسرح فنون موسكو. في عودتها إلى أمريكا، علّمت أعضاء مسرح المجموعة اليساري استعمال "طريقة" ستانيسلافسكي، والتي بها يجب على أيّ ممثل أن يطوّر كلّ جزء يؤدّى من عواطفه الخاصة، وهي طريقة قام لي ستراسبيرج بتعليمها لاحقاً أيضاً. براندو اختلف مع ستراسبيرغ ولا يعترف به.لا أحد من الممثلين الكبار يدينون لستراسبيرغ سوى آل باتشينو الذي كان التلميذ المباشر وقد جلبه آل للتمثيل معه في العراب الجزء الثاني وقد كانت له فرصة للفوز بأوسكار أفضل ممثل مساعد ولكن خسرها لروبرت دي نيرو تلميذ ستيلا إدلر معلمته ومعلمة الأستاذ الأكبر مارلون براندو الذي يدين له الجميع .ويؤكد ذلك السيرة الذاتية لكل الأسماء المذكورة . لي ستراسبيرغ في العراب الجزء الثاني، وفي فلم العدالة للجميع .. صراحة يرثى لحاله .. يلهث وراء مجد مستعصي على مثله ربما هو عيب آل باتشينو.
=======================================================
* هل هناك أساليب تمثيل مختلفة وما هى تعريفاتها ومن هم روادها العالميون ؟ ومن هم أبرز اللاعبون - الممثلون - على شاشة التلفاز والسينما من الوطن العربي على مر العصور؟ ومن هو المخرج وما هو الإخراج. شكرا ونرجو لكم دوام الموفقية والنجاح.
هاشم
من الكويت
* أسئلة الأخ هاشم من الكويت تحتاج إلى كتاب كامل للإجابة عنها لكني سأوجز بقدر ما أستطيع. نعم هناك أساليب مختلفة للتمثيل، هناك أسلوب التقمص المطلق الذي يعتمد على منهج مدرسة ستانسلافسكي الروسي (مسرحي أساسا) والتي اعتمدت عليها طريقة "المنهج" أو الميثود التي وضعها المخرج والممثل الأمريكي لي ستراسبورج (من العشرينيات) من خلال ما عرف باسم "ستديو الممثل". وقامت عليها فيما بعد مدرسة نيويورك أو معهد التمثيل المسرحي والسينمائي التي تأسست عام 1969، وعلى يدي ستراسبورج درس عدد من كبار ممثلي وعمالقة السينما الأمريكية مثل مارلون براندو، ولي ج كوب وداستين هوفمان وآن بانكروفت وجيمس دين وبول نيومان وآل باتشينو، وإيلي والاش، ومارلين مونرو ورود شتايجر وغيرهم.
وتعتمد "الميثود" على استدعاء المشاعر والانفعالات الشخصية من داخل الممثل لمساعدته على أداء الدور حد التقمص المطلق. وهناك طبعا الطريقة الأخرى التي يحاكي فها الممثل الشخصية من الخارج من خلال الصوت أو حركة الوجه، دون أن يستدعي انفعالاته الخاصة.. وهناك مدرسة التحليل النفسي للشخصية أو المنهج السيكولوجي في التعامل مع الشخصية التي يؤديها الممثل.
وأساس التمثيل هو فن المسرح، ويطوع التمثيل السينمائي أمام الكاميرا لكي يتخلص من المبالغة والتلويح باليدين والاعتماد أكثر على التعبير بالوجه ونغمة الصوت..إلخ.
أما المخرج فهو الشخص المسؤول عن توجيه الممثلين: ماذا يفعلون بالضبط، وكيف يتحركون داخل المشهد، كما أنه يوجه المصور ويشرف على توليف الفيلم في النهاية، بل انه يتدخل في كل جوانب العمل السيمائي من السيناريو إلى الديكورات إلى الموسيقى، يحدد التأثير المطلوب من كل منها ويتعاون مع الجميع من أجل انجاز الفيلم الذي يصبح مسؤوليته بالكامل في النهاية.
لا أستطيع الحديث عن كل عمالقة التمثيل في العالم العربي على مر العصور هناك الكثير ولابد أنك تعرفهم لكن يبدو انك تريد رأيي الشخصي: هناك على سبيل المثال: زكي رستم وأمينة رزق ومحمود المليجي وحسين رياض وعبد الوارث عسر وشكري سرحان ورشدي أباظة وسعاد حسني ونادية لطفي ومحسنة توفيق وزوزو حمدي الحكيم ومحمود مرسي وأحمد زكي ونور الشريف وفردوس عبد الحميد وشريهان.. ومن الدول العربية غير مصر كثيرون يضيق المجال بهم لكن الأفلام قليلة وهناك من الأفلام الجزائرية والمغربية ما لا يعتمد اساسا على عمل الممثل بل على عمل المخرج أكثر.. طبقا لنظرية سينما المؤلف التي تهمل الممثل- النجم.
====================================================
* تحياتى أستاذ أمير. أولا أهنئ حضرتك بمناسبة صدور كتابك الجديد (حياة فى السينما). ثانيا هناك جملة ذكرتها فى مقالك ردا على مقال الأستاذ أحمد يوسف وهى أنك ترى أن الفيلم عمل ابداعى فردى يعبر عن رؤية مبدعه (الفرد) هذه الفكرة بالتحديد تشغلنى منذ فترة ليست بالقليلة أو منذ أن عقدت النية على دراسة السينما والتساؤل الذى يطوف بذهنى فى كل فيلم جديد أراه هل يُسئل المخرج (فلان) بقدر ما يسئل الروائى (فلان) مثلا عن عمله الأدبى؟ وبعيدا عن دراسة السينما لايزال الأمر يشكل بالنسبة لى معضلة فى (تذوق الفيلم) كعمل مترابط يعبر عن وجهة نظر فنية وفكريه موحدة، ودائما ما سبب لى وصف (صناع الفيلم) نوعا من الصداع. وللأسف عظم ما قرأته لم يفدنى فى الوصول الى ما يمكننى القول عنه "أساس مبدئى لوجهة نظر". أردت من حضرتك - ان اتيحت الفرصة - أن تكتب عن " المبدع الفردى للفيلم " كما تراه . خالص تحياتى
عمر منجونة
* في مجال الرد على صديقي عمر أقول: عزيزي عندما نقول "صناع الفيلم" فنحن نقصد المنتجين أو أطراف الإنتاج المتعددة والأطراف الممولة التي اشترت الفكرة والسيناريو، وبينهم الموزع أيضا، أي القائمين على الفيلم من ناحية الجانب الصناعي والتجاري (صناع الفيلم أي الذين يقفون وراء صناعته) ومنهم المخرج أيضا، فالإشارة إلى الصناعة هنا ليست خطا، لأن هذا الجانب قائم في السينما، ومن يشتري فكرة يريد بالطبع أن يجعلها "سلعة" أليس كذلك، اي سلعة فنية أو ثقافية أو للتسلية- حسب نظرة كل منا للسينما بالطبع، وبالتالي هو مسؤول عن هذه السلة بشكل أو بآخر.
أما قولي إن الفيلم ابداع فردي فالمقصود به كنت أعتقد أنني أوضحته في مقالي، وأكرره وأزيده هنا وهو أن الأفلام مثل أي نشاط إنساني آخر كالرسم مثلا، صحيح أن وراءها صناعة، لكن الفكرة، والموضوع، البناء، والرؤية، كلها أشياء تنبع من شخص أو أكثر (يكون منهم المؤلف وكاتب السيناريو) يتفقون معا في النهاية على عمل الفيلم طبقا لهذه الرؤية، وليس نتيجة "إجماع الأمة" أو "مقتضيات المرحلة" أو من أجل "مواجهة الصهيونية" أو للرد على "الاختراق الغربي" أو تعبيرا عن "ضمير الجماعة أي ضمير الأمة" أو بناء على تكليف أو قرار حكومي بعمل أفلام "تمجد الإنسان المسلم مثلا" أو تبرز "عظمة تاريخنا وتقاليدنا" او "تعبر عن عظمة الجندي المصري أو السوري في حرب أكتوبر".. هذه كلها أفكار عامة ساذجة يطرحها الكثير من الكتاب المشغولين بالقضية الاجتماعية والسياسية على حساب الجانب الفني وأصله وأساسه، وهو انه ابداع فردي لا يمكن صنعه طبقا لتوجيهات أو بقصد مبيت.. وعندما يتم ذلك بل وهو يحدث هنا وهناك، فإنه لا ينتج أعمالا فنية بل مجرد "أشياء ولافتات" دعائية فاشية سخيفة لها علاقة بالظاهرة الاجتماعية والسياسية لكن لا علاقة لها بالفن أو بالابداع. والفيلم كما ذكرت أعلاه ردا على السؤال السابق، مسؤولية المخرج أساسا، فالمؤلف ينتهي دوره بتقديم النص سواء رواية أم سيناريو، وتبدأ مسؤولية المخرج وهذا ليس لغزا بل أمر يعرفه الجميع بما فيهم نجيب محفوظ العظيم نفسه الذي كان دائما ينأى بنفسه عن الأفلام التي أعدت عن أعماله ويعتبرها أفلام مخرجيها.
وعندما جاء حزب البعث العراقي إلى السلطة أراد عمل أفلام تمجد حركة البعث وتلعب على فكرته الفاشية التي تتلخص في أن الفيلم يجب أن يوظف في خدمة الأمة.. والأمة هنا تعبير بديل عن سياسة الحزب المهيمن على السلطة والمتحكم في الأمة، فكانت النتيجة تدمير الابداع السينمائي في العراق وهجرة كل السينمائيين القادرين على الفعل إلى الخارج. إن حزب البعث أراد أن يخلق "الإنسان البعثي" و"السينمائي البعثي" أي الذي يتحدث بلسان الحزب ولا يكون له لسانه الخاص أو عينه، ولذا يمكن القول إنه حزب قطع الألسنة. وكل ايديولوجية شمولية تريد أن تصنع الإنسان على شاكلة محددة.. أن تضعه في قالب وخصوصا الفنان، ولكن المفارقة ان الفنان تحديدا لا يمكنه أن يخضع لاي قالب.
وفي ليبيا لا توجد سينما تحديدا لنفس السبب، لأنه نظام شمولي يؤمن بفكرة جوفاء وضعها شخص نصف أبله.. نصف حشاش، اراد أن يجعل الطبيعة نفسها تتغير من أجل أن يثبت أنه على صواب، ولم يظهر في ليبيا اي فنان لأن الأبله جعل من نفسه الفنان والمفكر والأديب الأوحد وهجرت كل العقول ليبيا إلى الخارج. وفي سورية تصدر تعليمات بعمل مسلسلات تدور في اتجاه معين (تاريخي يخدم توجهات البعث السوري القومية) ويهمل البحث في مشاكل الانسان السوري ودائما يهرب المخرج التليفزيوني إلى التاريخ أو إلى تقديم اعمال عن "القضية الفلسطينية" مثلا، من وجهة نظر لا يمكنها الخروج عن أفكار الحزب المسيطر، واذا حدث وخرجت عنها يصادر الفيلم أو يمنع صاحبه من العمل كما في حالة المخرج محمد ملص مثلا. وكان الدوجماتيون في الحزب الشيوعي السوفيتي في عهد ستالين يروجون لمثل هذا النوع من الأفلام التي تجسد أولويات الحزب والفكر الجمعي والتعبير عن البروليتاريا.. إلخ لكن التمرد جاء وحدث في الفن والسينما وأصبح هناك مثلا تاركوفسكي، فهل يعبر تاركوفسكي في أفلامه عن الأيديولوجية التي كانت سائدة في بلده، وهل أخرج أفلاما عن النضال الوطني الروسي أو السوفيتي في مواجهة الغرب الرأسمالي في اطار الحرب الباردة، أم صنع "افلامه" هو التي تعبر عن افكاره الخاصة في الحياة والدنيا والعلاقة بين الإنسان وما يدور حوله بل وعلاقته أيضا بالله وبتاريخه الخاص؟
هل وصلت الفكرة؟ إن أفكار الكثير من أصدقائنا الناصريين لاتزال تدور في اطار عتيق يتخيل أن هناك غزوا سينمائيا يجب مواجهته إما بالمقاومة، بصنع أفلام "تدعو إلى نصرة قضايانا"- كما يقولون، أو بالغزو المضاد، وهو تصور يفترض أن هناك حروبا دائمة مستمرة بين البشرية، يجب أن تصبح السينما فيها اداة حرب وليست وسيلة تعبير إنساني تنشد حرية الإنسان.
ولكنك لن تنجح الا اذا كنت صادقا، وإلا إذا كانت لديك إبداعات فردية متنوعة ومتعددة شأن المجتمعات الانسانية نفسها، فمن الذي يمكنه أن يقول إنني مثلك، أفكر مثلك لأننا ولدنا ونشأنا في مجتمع واحد؟ هذا غير صحيح فكل إنسان له تفكيره وثقافته وخياله الخاص، صحيح أنه ابن ثقافة مجتمعه ومحيطه، لكنه يدخل في حالة نقدية مع ما يوجد حوله أيضا، أو لا يدخل، والفنان المبدع بالضرورة يعيش علاقة حب- كراهية مع مجتمعه، حب لما هو أصيل وجميل، وكراهية لكل تشويه وقبح. وإلا ما وجد الإبداع.
أما "ضمير الأمة" أي الفكرة السياسية الحزبية: ناصرية كانت أم بعثية أم شيوعية، فهي تريد أن يصبح الفنان أداة لخدمة عقيدة الحزب أو المسيطرين على السلطة.. وهذا تحديدا ما يريده أحمد يوسف والذين يكتبون على طريقته. وقد تصادف أنني قرأت اليوم فقط تقريرا عن ندوة تكلمت فيها الأخت درية شرف الدين المذيعة التليفزيونية، عن "الغزو الفكري كما يتمثل في أفلام هوليوود وكيف أن الأمريكيين ينتجون أفلاما تخدم توجهاتهم في العراق- بل إنها ذكرت تعبير "كل الأفلام التي ينتجها الأمريكيون" علما بأن أكثر الأفلام انتقادا للدور الأمريكي في العراق لم تأت إلا من هوليوود.. فهل هناك بعد ذلك "بارانويا قومية" أكثر من هذا!
أخيرا أقول إن المخرج هو المسؤول الأول عن فيلمه مثلما أن الروائي مسؤول عن روايته، حتى لو لم يكتب فيلمه لأنه يختار طريقة تجسيد الرواية أو القصة التي كتبها غيره بتصور آخر مختلف فلا توجد كاميرا في الرواية.. أليس كذلك. أرجو أن أكون قد وفيت.

الخميس، 12 نوفمبر 2009

الاحتفاء بالتفاهة

المهرجانات تصنع ثقافة، خصوصا في البلدان التي تعاني من قلة الثقافة، أو احجام المؤسسات الخاصة على القيام بدور ثقافي بعد أن توحش رأسمال الخاص وأصبح كل ما يشغله هو اقامة الأفراح والليالي الملاح، بأكثر أنواع البذخ والاستعراض كما لم يحدث ولا في "ألف ليلة وليلة".
ومن أولويات الاهتمام بالثقافة أن تحتفي المهرجانات السينمائية بالنماذج المثقفة من فنانيها ومبدعيها ومفكريها السينمائيين الذين يمكنها بحق أن تباهي بهم العالم.
غير أن مهرجان القاهرة السينمائي اختار- كعادته وبحكم اتكوين الثقافي الهزيل للمسؤولين عنه – تكريم رموز التفاهة والتدهور. وقد أصبح ما يجري في هذا الإطار "المسكوت عنه" تماما في الصحافة والإعلام والنقد، لأن الجميع يريدون أن يجدوا لأنفسهم بابا يدلفون منه إلى "ضجة الدروشة"- باقتباس تعبير نجيب سرور العظيم.
لا أفهم كيف يمكن اقامة تكريم لممثلة متواضعة سوقية نمطية مثل نادية الجندي التي اساءت، ليس فقط إلى فن التمثيل، بل إلى المراة المصرية عموما، في مهرجان يزعم القائمون عليه أنهم يحاولون الترويج للصورة الإيجابية للسينما المصرية.. فهل نادية الجندي ضمن تلك الصورة، وهل يمكن اعتبارها ممثلة مبدعة أصلا، أم ان هذا التكريم يعكس الانهيار الثقافي والفني الذي بلغناه في عصر الانحطاط الاجتماعي السعيد.
كان من المتصور مثلا أن يتم الاحتفاء بممثلة من طراز فردوس عبد الحميد أو محسنة توفيق، خاصة أن الاثتنين يعانيان من التجاهل التام من جانب أجهزة "التلميع" التي يشرف عليها الوزير الرسام، أما أن يتم تكريم نادية الجندي أو حتى شويكار طوب صقال (وهذا هو اسمها الكامل) التي لن تقدم شيئا ذا قيمة في السينما منذ أن اشتغلت بها في أوائل الستينيات، فهذه هي قمة المهزلة.
هل يكفي أن يكون المحتفى به قد ظل يراكم أعدادا من الأفلام بلا معنى أو مغزى حتى يحتفة به؟
إن هذه الاحتفاءات والاحتفالات والتكريمات الوهمية لا تعني سوى أننا لا نعرف الفرق بين فن التمثيل وفن العلاقات العامة، بين السينما كفن يقوم على الفهم والمعرفة، والفهلوة التي تجعل سهير عبد القادر مسؤولة عن أهم مهرجان سينمائي في تاريخ مصر، والرسام المتواضه المستوى يكتم على صدر الثقافة المصرية لمدة 23 عاما بلا أدنى أمل في أن يرحل عنها قريبا، ويبدو أنه فعلا زمن "سلم لي على البنتجان" فعلا باقتباس تعبير العبقرية اللولبية في فيلم "الباطنية"!

الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

أسماء في "حياة في السينما"


ذكرت الكثيرمن الأسماء، أو توقفت أمامها، في كتاب "حياة في السينما" (الصادر حديثا) من مصر والعالم العربي وهي تشمل عددا كبيرا من المثقفين والسينمائيين والنقاد والشخصيات العامة التي وردت وقائع بشأنها في الكتاب الذي يحوي الكثير من الفصول غير المنشورة من قبل، كما يروي بالتفصيل، قصة بداية مهرجان القاهرة السينمائي عام 1976 ويبين الهدف الذي كان قائما من وراءه، ولماذا وقف النقاد ضده من البداية وكيف غير البعض مواقفهم، كما يستعرض الكتاب صعود وسقوط عدد من المثقفين الذين غيروا مواقفهم وآثروا الارتماء في أحضان السلطة، في حين أن آخرين لم يجدوا امامهم، بعد تدهور الأوضاع الثقافية والسياسية في مصر، من ملجأ سوى الهروب إلى الخارج، للعيش في نوع من المنفى الاختياري بدلا من الموت البطيء في الداخل، ومنهم الناقد الكبير الفاروق عبد العزيز الذي لايزال يعيش في الكويت منذ 1978، وكاتب هذه السطور الذي يعيش في لندن، في حين أن الذين كانوا يبشرون بتقديم الكثير عادوا، وكان لزاما عليهم الاندماج في "اللعبة"، أي لعبة السلطة والمراكز والمناصب والنفوذ والسيطرة.. أي الضلوع بشكل ما في منظومة الفساد الكبرى القائمة حتى الآن، وهذا لا يمنع من وجود الكثير من الأسماء التي لاتزال تقاوم في الداخل، وتحاول التماسك والعمل، دافعها ايمانها بأن الخير لابد أن ينتصر في النهاية على الشر. إنها شهادتي التي يهمني أن تصل إلى جميع الأصدقاء والمهتمين بمعرفة الحقائق: كيف كنا وكيف أصبحنا، وما نحن مقبلون عليه إذا كان في العمر لاتزال بقية بعد. وهذه بعض الأسماء التي توقفت أمامها في كتابي هذا، أنشرها هنا بدون ترتيب معين:
صلاح أبو سيف، يوسف شاهين، محمد خان، داود عبد السيد، أسامة فوزي، رضوان الكاشف، محمد ملص، نوري بوزيد، فريد بوغدير، محمد حلمي هلال، سامي السيوي، عبده جبير، فاروق عبد القادر، عادل السيوي، جلال الجميعي، فتحي فرج، مصطفى درويش، سامي السلاموني، أحمد الحضري، سمير فريد، علي أبو شادي، مجدي أحمد علي، الدكتور محمد حسن خليل، هاني المنياوي، عبد الرحمن المنياوي، حسين بيومي، حسن بيومي، أحمد قاسم، محمد كامل القليوبي، شحاتة هارون، عطيات الأبنودي، صلاح هاشم، عزت العلايلي، خميس الخياطي، الطيب لوحيشي، سمير نصري، يوسف شريف رزق الله، أحمد رأفت بهجت، محسن محمد، عبد المنعم الصاوي، يوسف السباعي، صلاح عيسى، السيد سعيد، محمد رضا، أمجد ناصر، جان شمعون، جاد الحاج، أحمد الحسني، ليلى علوي، قصي درويش، سعد الدين وهبة، أسامة خليل، أمير سالم، فوزي سليمان، فايز غالي، الفاروق عبد العزيز، انور خورشيد، صبحي شفيق، نديم ميشيل، ثروت عكاشة، أنور السادات، محمد عبد السلام الزيات، توفيق حنا، ماجدة واصف، الدكتور خليل فاضل، بهيجة حسين، يحيي الفخراني، جميلة اسماعيل، محمد الدرديري، ماريان خوري، خيري بشارة، الممثلة سيمون، عزة كامل، عبد الفتاح الجمل، رشيد مشهراوي، سعد هنداوي، نجيب الرفايف، بوسي، يسري نصر الله، عاطف الطيب، ابراهيم البطوط، رمضان سليم، رضا الباهي، زهير الدواليبي، سمير نصري، محمود سامي عطا الله، خالد شوكات، محمد بكري، قاسم عبد، محمد توفيق، محسن ويفي، شريف عرفة، وحيد حامد، كمال رمزي، عادل حسني، محمود حميدة، سهيل حداد، رءوف توفيق، أحمد صالح، د. لويس عوض، أنيس البرغوثي، محيي اسماعيل، أحمد عبد الحليم، هايني سرور، نبيهة لطفي، ماجدة موريس، يحيى حقي، أحمد راشد، هاشم النحاس، ياسر هويدي.

زواج رأس المال بمهرجان القاهرة السينمائي

في مصر زواج " كاثوليكي" معلن، بين رجال المال (الذين يطلق عليهم البعض رجال الأعمال في حين أنه لا هم لهم سوى جمع المال بكل الطرق، المشروعة وغير المشروعة)، وبين رجال السياسة أي حكامنا الأفاضل الذين لا يغادرون مقاعدهم إلا بمعرفة عزرائيل شخصيا. يحصل رجال الطرف الأول على العقود والتسهيلات والتوكيلات والترخيصات من رجال الطرف الثاني، في حين يحصل رجال الطرف الثاني على الرشاوى والهدايا والأراضي والشقق والفيلات والدعم المالي المطلق من رجال الطرف الأول.بعد هذا الزواج "غير الشرعي" بين شيطان المال وشيطان السياسة، يبدو أن هناك من يريدون أن يستحضروا لنا شيطانا من نوع آخر، الشيطان المعدل.. بين المال ومهرجان القاهرة السينمائي.

فقد سرت أخيرا دعوة إلى ضرورة تبرع رجال المال بمليون دولار تخصص لجوائز مهرجان القاهرة السينمائي، من أجل "إغراء" السينمائيين المصريين بالمشاركة بأفلامهم في المهرجان الذي يعاني من إحجام هؤلاء عن المشاركة فيه، ليس لأنه لا يغريهم بجوائز مالية ضخمة كما يردد البعض، بل إحساسا منهم بأنه أصبح مهرجانا "غير محترم"، فهو مهرجان ترأسه امرأة لو تقدمت في اختبار مفتوح للحصول على وظيفة سكرتيرة في المهرجان لرسبت لعدم إلمامها باللغات الأجنبية إلماما كافيا على الأقل، إلى جانب نواقص أخرى عديدة. وهو أيضا مهرجان فضائحه متكررة منذ 33 عاما، لا يمكنه أن يتعلم لأنه مثل كل المؤسسات القائمة، مهرجان هرم، عجوز، يفتقر للحيوية وللثقافة وللمعرفة وللعلم وللشباب أيضا، وتتكالب عليه حفنة من أعضاء جمعية المنتفعين والانتهازيين الذين يتميزون بالجهل المطبق فيما يتعلق بالسينما: تياراتها واتجاهاتها، باستثناء اسم واحد أو اسم ونصف. وعندما يقترح عليهم ذلك "الإسم" الذي يعرف، شخصية لتكريمها مثل المخرج الإيطالي العظيم ماركو بيللوكيو (صاحب الفيلم- التحفة "الانتصار" الذي عرض في مهرجان كان الأخير، وهو من جيل السينمائيين الايطاليين المخضرمين) يقدم المخرج في حفل الافتتاح الاخير على خشبة المسرح، ويعرضون لقطات يفترض أنها من أحد أفلامه، لكي يفاجأ الجمهور بالمخرج يتناول الميكروفون ويقول إن المقطع الذي عرض ليس من فيلمه بل من فيلم مخرج ايطالي آخر هو ايليو بتري.. أي أن بتري مثل بيللوكيو في عرف الست سهير عبد القادر ورفاقها الطيبين. وقديما، قبل 23 سنة، كان هناك مخرج عظيم، لو وجد في أي مهرجان لأصبح الحدث الأكثر أهمية، هو الراحل الكبير سيرجيو ليوني صاحب البصمة المميزة لأفلام بـ"الويسترن ساباجيتي". لكن أحدا في المهرجان لم يلتفت إليه، ولم يتم تقديمه بالشكل اللائق، وقد رأيته يجلس وحيدا متبرما ملولا في ردهة الفندق أكثر من مرة ثم آثر أن يغادر المهرجان قبل نهايته. وعندما جاء المخرج الأمريكي أوليفر ستون قبل 14 عاما إلى المهرجان، أجرى معه صديقنا يوسف شريف رزق الله مقابلة تليفزيونية (على الهواء) وعندما سأله عن رأيه في المهرجان والقاهرة، انبرى ستون يعرب عن استيائه من المهرجان ومن الفوضى القائمة والاهمال، واشتكى من أن لا أحد هنا يريد أن يحدثه عن أفلامه، بل يبدون جميعا أكثر اهتماما بالفقاقيع الموجودة حوله، وقال إن القاهرة مدينة مزعجة، مزدحمة لا تصلح لتنظيم مهرجان.. وكانت مفاجأة مذهلة لصديقنا يوسف الذي اضطر إلى ترجمة معان مخالفة تماما لما قاله ستون، مثل: إنه يقول إن المهرجان جميل والقاهرة بلد دافئ.. وما إلى ذلك بافتراض أن معظم المشاهدين ليسوا من خريجي الجامعة الأمريكية بالطبع!

أما موضوع الزواج المطلوب الآن بين رجال المال ومهرجان القاهرة، فليس مفهوما على الإطلاق بأي حق يمكن أن يطلب المهرجان من رجال المال أن ينفقوا مليون دولار على جوائز المهرجان، فما الفائدة التي ستعم عليهم؟ هل سيقدمون ذلك من "أجل عيون مصر"، أو إرضاء للسيد فاروق حسني الوزير، أم أنهم سيطالبون في هذه الحالة بفائدة ما محددة تجود بها الوزارة عليهم، مثل الحصول على عطاءات محددة لترميم المساجد والأماكن الأثرية التي تتكفل بها وزارة الثقافة وتنفق عليها مئات الملايين مثلا.. وهو ما تردد أيضا أنه يحدث بانتظام مكافأة على شراء هؤلاء الكثير من لوحات الوزير الرسام بإيعاز من مديري مكتبه على طريقة "معرض السيد الوزير يوم الاثنين القادم.. ولا تنس معاليك أن تحضر.. الوزير شخصيا مهتم بحضورك وقد كلفني بدعوة سيادتك.. وربما يعجبك لوحة أو إثنتين من لوحات الوزير.. هه.. هه؟". واللوحة في هذه الحالة لا تباع بآلاف الجنيهات بل بمئات الآلاف طبعا.. أليست "لوحة الوزير".. على وزن "حذاء اللجنة" في رواية صنع الله العظيمة!

ولذا فالسيد الوزير الفنان يردد دائما بثقة أن كل ما حققه من ثروة جاءت من دخل معارضه وبيع لوحاته.. نعم.. وهذا صحيح تماما، وهذه هي تحديدا طبيعة زواج المال بالثقافة، أي مزيد من الفساد.. والعياذ بالله!

الأحد، 8 نوفمبر 2009

حياة في السينما .. شهادة جيل

بقلم: خالد السرجاني

منذ أيام صدر عن مكتبة مدبولي كتاب للزميل والصديق الناقد السينمائي والثقافي الكبير «أمير العمري» بعنوان «حياة في السينما» وهو نفس عنوان مدونته علي الإنترنت التي تعتبر من أكثر المدونات انتشارا لدي شباب السينمائيين ومن أفضل المدونات أيضا . والكتاب ليس في النقد السينمائي ولا سيرة ذاتية حسبما قد يعتقد من يطلع علي العنوان، ولكنه شهادة من جيل السبعينيات علي ما جري في مصر خلال هذا العقد، وكيف تحول الحراك السياسي الذي شهدته إلي موات ثقافي بفضل أجهزة الدولة من جهة وبعض المنتمين اسما إلي المثقفين من جهة أخري، وبعض أخطاء أبناء الجيل نفسه من جهة ثالثة.
والكتاب يمثل أيضا شهادة علي تحولات بعض المثقفين والكتاب الذين أظهروا لنا في فترة من الزمن أنهم ينتمون لنا نحن عامة الشعب ثم انتقلوا فجأة وبلا مقدمات إلي المعسكر الآخر: السلطة.
و«أمير العمري» عاشق حقيقي للسينما، وناقد كبير، لكنه في الوقت نفسه لا يتعامل مع السينما باعتبارها «عملاً تقنياً» إنما هي فن مرتبط بالمجتمع، والناقد السينمائي من هذا المنطلق يجب أن يكون كأمير العمري موسوعي الثقافة مطلعاً علي التاريخ وعلم الجمال والموسيقي وغيرها من العلوم الاجتماعية والفنون وهو ما التزم به الناقد الكبير مؤلف الكتاب الذي يحكي فيه عن محاولات تأسيس سينما مستقلة في مصر من خلال جماعة السينما الجديدة، أو تأسيس جمعيات سينمائية متعددة مثل جمعية سينما الغد لتضاف لما هو موجود من جمعيات مثل نادي السينما وجمعية الفيلم، ويحكي أيضا عن كيف تدخلت الدولة لوأد بعض هذه الجمعيات، وكيف تآمر البعض علي الجمعيات الأخري من أجل أن تظل المؤسسات الثقافية تابعة للدولة وحتي لا يصبح للمثقفين مؤسساتهم المستقلة.
والكتاب ضم وثيقة تنشر لأول مرة في مصر، وهو محضر اجتماع مهم عقدته جماعة نقاد السينما لمناقشة مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأولى، والذي كان يعرف لدي الأوساط السينمائية في ذلك الحين باسم «مهرجان شيراتون»، وقد حضر الاجتماع نقاد ومثقفون عرب، ومن يتابع المناقشات التي جرت في عام 1976 سيجد أننا لم نتقدم خطوة واحدة إلي الأمام، كذلك فإن أكثر النقاد انتقادا للمهرجان لأسباب مبدئية كانوا هم الأكثر تعاونا معه فيما بعد.
ومؤلف الكتاب لا يقدم أحكاما قيمية وإنما يقدم شهادة حول ما جري من أحداث، وعلي القارئ الفطن أن يصدر أحكاما أو تصورات حول الواقع الثقافي المصري انطلاقا من الشهادة التي يوجد لها شهود أحياء. وهو كتب شهاداته بلغة جميلة سيالة، خاصة الشهادات الخاصة بعلاقات إنسانية حميمية مع أفراد نحبهم مثل ما كتبه تحت عنوان «ذكريات عن شلة المنيل ورضوان الكاشف».
كذلك أوضح «أمير» الأفلام التي أثرت في الحركة السينمائية المستقلة في مصر وفيه شخصيا، مثل الأفلام الإيطالية أو فيلم «الترتيب» المعروف أيضا باسم «قلوب في دوامة» أو المدرعة بوتميكن وغيرها من تلك الأفلام المنتشرة أفقيا في الكتاب والتي يوضح كلما ذكر اسماً واحدا منها كيف تأثر به وكيف كان يعبر عن نقلة نوعية في فنيات السينما.
والشهادة التي يقدمها العمري في كتابه المهم ليست عن السينما، ولا عن السينمائيين، وإنما هي شهادة مثقف من جيل السبعينيات عن الحركة الثقافية في هذة الفترة بشخوصها ومؤسساتها وإبداعاتها، وكيف كان يسعي الجيل الذي ينتمي إليه من أجل تأسيس ثقافة مستقلة ومن أجل تغيير الواقع لآخر أكثر إنسانية وجمالا. فيه نطالع عن محاولات تأسيس نادٍ للسينما في كلية طب عين شمس حيث كان يدرس المؤلف، وذكريات المؤلف مع المخرج المصري العالمي يوسف شاهين، وعن عبد الفتاح الجمل ذلك المثقف الذي فتح صفحات ملحق الثقافة في جريدة المساء للكتابة الجديدة والكتاب الجدد وأثر في الثقافة المصرية بل غيرها من خلال احتوائه لجيل الستينيات وبعض رموز جيل السبعينيات، وعن السينمائي الإسرائيلي الذي قاد طائرة الرئيس السادات وهو ذاهب إلي القدس عام 1979، ومحاولات المخرجة عطيات الأبنودي لتصوير أفلام تخرج علي السائد .
ومن المهم أيضا في كتاب «أمير العمري »ما كتبه حول تجاربه في لجان تحكيم المهرجانات السينمائية الكبري، حيث يوضح للقارئ كيف تمنح الجوائز وكيف تحدث المفاوضات بل المساومات والضغوط داخل لجان التحكيم من أجل منح فيلم ما جائزة وحجبها عن آخر، وهو أمر لا أعتقد أن أحدا غيره كتبها بالعربية من قبل.
والكتاب شيق، ومهم، سواء للمتخصص في السينما أو الذي يريد أن يطلع علي جزء من التاريخ الثقافي لمصر في الفترة منذ منتصف السبعينيات حتي اليوم وهو يفتح المجال لشهادات أخري مكملة له أو مناقضة له بما ينير الرأي العام حول الثقافة المصرية غير الرسمية، أو لنقل الثقافة المضادة التي تم وأدها في مهدها من خلال أجهزة الدولة حيث تدخلت أجهزة الأمن في بعض المواضع لتمنع بعض المبادرات المستقلة، وكان سيف الاتهام بالشيوعية والعمالة لدول الكتلة الشرقية مسلطا علي رقبة كل مثقف مستقل يسعي لأن يكون صوته من دماغه وليس قادما من جهة ما سواء رسمية أو حزبية ضيقة الأفق . فالكتاب شهادة لا غني عنها لمن يريد أن يعرف تاريخ سبعينيات القرن الماضي لأن الكاتب يربط بين التجربة الشخصية التي يسردها وبين تحولات السياسة والمجتمع في مصر في الفترة التي جرت فيها الأحداث الشخصية التي يتعرض لها.
هناك شخصيات وردت أسماؤها في الكتاب كشهود علي عصر مثل حسين وحسن بيومي، وأحمد قاسم، ومصطفي درويش ، ومحمد حسن خليل، وشحاتة هارون، وعطيات الأبنودي، ومحمد خان، ويسري نصر الله، ورضوان الكاشف، ومحمد حلمي هلال، ومحمد كامل القليوبي، وسيد سعيد، وغيرهم من كبار المثقفين الذين ساهموا بجهودهم في كتابة تاريخ مصر في مرحلة تحول مهمة في تاريخها. فضلا عن عرب آخرين مثل محمد رضا ونوري أبوزيد ورشيد مشهراوي وغيرهم أيضا. ولا أريد أن أطيل حتي لا أحرق علي القراء ما ورد في الكتاب من تفاصيل مهمة، خاصة أن الكتاب الذي صاغه مؤلفه بسهولة يضم تفاصيل مكثفة لا يمكن تلخيصها في مقال صحفي.

الست سهير ومهرجانها وقوانين الطبيعة

ظهرت "الست" سهير عبد القادر التي تطلق على نفسها لقب "نائبة رئيس مهرجان القاهرة السينمائي" على شاشة التليفزيون المصري الحكومي في حلقة سخيفة من برنامج "البيت بيتك" وهو برنامج يمتليء عادة بالدعاية للدولة، ولرموزه، ويدافع بشكل ممجوج عن "انجازات" حكومة "الخراب الوطني" خاصة عندما يكون مقدمه هو المذيع ثقيل الظل تامر أمين بسيوني (الذي حل على أدمغة المشاهدين بالعافية بنفوذ والده الإذاعجي السابق في إطار توريث النخبة المصرية مناصبها لأبنائها).
ظهرت "الست" سهير عبد القادر لكي تدافع عن نفسها، وعن "مهرجانها" الذي لا يمكن أن تفرط فيه أبدا بل ستبقى كابسة على أنفاسه وأنفاسنا (حتى آخر نفس). ولكي تثير الشفقة بعد أن ارتدت مسوح الملائكة، ووضعت من المساحيق والرموش الصناعية والعدسات البلاستيكية ما لم ينجح في مداراة الفشل الذريع للزمن والطبيعة، أخذت تحدثنا عن مهرجانها الكبير وكيف أنه سيعرض فيلم "المومياء" تحت سفح الإهرامات.. أي في عرض سياحي لابتزاز السياح السذج المنبهرين بفكرة المقارنة بين الفيلم والطبيعة، وهي مهزلة حقيقية، فهل هذا عرض سينمائي رصين يليق بأي مهرجان؟ وكيف يمكن أن يركز اي جمهور وهو يشاهد فيلما بينما حوله هذه المناظر للآثار القديمة، ولعل هذا كان وراء انسحاب المخرج الكبير مارتن سكورسيزي (الذي تحملت مؤسسته انقاذ وترميم نسخة الفيلم وليست وزارة الثقافة المصرية كما يزعم البعض) فقد أعلن سكورسيزي أنه لن يحضر إلى المهرجان بسبب عدم توفر شروط ملائمة لعرض الفيلم. لكن "سهير" تبدو فخورة جدا بأنصاف وأرباع نجوم على شاكلة ممثل أمريكي مغمور يدعى بيرجر أو بيرنجر، وممثلة تليفزيونجية تدعى لوسي لو!
تكلمت الست كثيرا عن مهرجانها على طريقة الرئيس السادات الذي كان يعتبر الجيش المصري "جيشي"، والشعب "شعبي" والجنود "أولادي"، ولو أن السادات كان يتميز على كل الكائنات الموجودة حاليا حولنا، بأنه كان يلهمنا بتأليف النكات، في حين أن إخوانا الكابسين على أنفاس شعبنا حاليا يتميزون بثقل ظل من النوع النادر، ولذلك فهم يختارون للمناصب العليا والاعلامية خصوصا، كل اصحاب الظل الثقيل، وفاقدي روح المرح مهما حاولوا "الاستظراف"، وأخص بالذكر بالطبع، المدعو تامر أمين وأمثاله داخل "الصندوق السحري" أي التليفزيون.. ويمكن لتامر أمين، إذا أراد بالطبع، أن يقاضيني، فسأكون تحت طرف القانون الأسبوع القادم حين أحل ضيفا "أجنبيا" على بلدي.. باعتباري من "السكان الأصليين حملة جوازات السفر الأجنبية"، أي أنني في عرف تامر أمين وأمثاله المتنطعين، من "الخونة والعملاء".. علما بأنه سبق أن وجه له صحفي في صحيفة معارضة تصدر في مصر، من خلال مقال منشور، تهمة العمل النظامي المدفوع كضابط في جهاز مباحث أمن الدولة، وذكر رتبته والعمل الذي يقوم به تحديدا والمرتب الذي يقبضه، دون أن يتجرأ تامر أمين على أن يرد عليه أو ينفي التهمة أو يقاضيه.. فأمثاله يعتبرون العمالة للمباحث، وكتابة التقارير ضد زملائهم "مهمة قومية" تستحق التقدير!
وعموما يمكنني في المحكمة ان أطلب أكثر من 500 شاهد اختاروه على شبكة فيسبوك "أسوا مذيع".. وطبعا، أثقلهم ظلا، مثله في ذلك مثل كل "أحذية النظام" من الصحفجيين والإذاعجيين الذين يوظفون سماجتهم لخدمة أسيادهم!
المهم أن "الست" سهير أخذت تصول وتجول، وتسبل عينيها، وتدافع عن نفسها وعن مهرجانها الذي أتم ثلاثة وثلاثين سنة لكنه لايزال يتعلم.. فعندما انتقد الناقد طارق الشناوي (وكان معها على الهواء) عدم التزام دور العرض ببرنامج عروض المهرجان، أقرت بصحة الأمر، وتعهدت بحل المشكلة، كما لو كانت المشكلة قد ظهرت اليوم فقط وليست مستمرة منذ أن ظهرت المرأة الحديدية في الصورة في مكتب المغفور له سعد الدين وهبه قبل نحو ربع قرن!
طارق الشناوي كان لطيفا ومهذبا، ربما أكثر مما ينبغي، مما دفع الست إلى استثنائه من لسانها، اكتفاء بـ"التلسين" على من حاولت وصفهم ففشلت، فما كان إلا أن أسعفها طارق الشناوي فسماهم لها- على سبيل السخرية بالطبع- "الأشرار" الذين يهاجمون المهرجان (ونسيت أن تضيف... ومصر).
لكن طارق الشناوي كان ينبغي أن يلفت نظرها إلى حقيقة أن وجودها على قمة المهرجان لربع قرن أمر يتعارض مع قوانين الطبيعة نفسها حسب هيجل، وحسب هيكل أيضا، أي انه ضد طبيعة الأشياء، بل وضد علم الفسيولوجي نفسه!
ونسى الشناوي، أو تجاهل تأدبا، أن يقول لها إنها استولت على هذا الموقع الذي تشدقت بالقول إن الوزير (من الوزر) أصدر لها قرارا يكفل حقها فيه وإنه لم يكن هناك مدير للمهرجان سواها من البداية، ولا نظن أن أي وزير يملك اصدار قرار أبدي للست سهير وأمثالها يكفل لها أن تجثم على أنفاس المهرجان للأبد.
لقد تجاهل طارق الشناوي حقيقة أنها مثلها مثل وزيرها الرسام القابع على صدر الثقافة المصرية منذ نحو ربع قرن هو الآخر، وأن هذا هو منطق الأمور في مصر منذ أن رحل عنا "الرئيس المؤمن".. ولاشك أن هذا الوضع سيظل كذلك، طالما ظلت النخبة مستنزفة يوميا، إما في توريث ابنائهم وضمان مستقبلهم في حوض الفساد، وهو أعظم من حوض المتوسط، أو الدفاع عن حرية النقاب والمتنقبات "شرا".. والعياذ بالله!

السبت، 7 نوفمبر 2009

في مهرجان أوسيان للسينما الآسيوية والعربية



كانت تلك هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى الهند، تلك الدولة العظيمة بتاريخها الشامخ، لكي أشارك في حضور الدورة الحادية عشرة من مهرجان أوسيان، الذي خصص برنامجه منذ عامين للسينما العربية والآسيوية في مبادرة هي الأولى من نوعها في العالم غير الناطق بالعربية، أقصد أنها المرة الأولى التي تبدي فيها دولة من الدول الكبرى في مجال صناعة السينما هي الهند (التي تعد الأكبر على الإطلاق) اهتماما بالترويج لسينما أخرى ضئيلة الحجم مقارنة معها، هي "السينما العربية"، أو بالأحرى، الأفلام التي تنتج بشكل متفرق في البلدان العربية (باستثناء مصر).المهرجان أقيم في الفترة من 24 إلى 30 اكتوبر.
وكان المهرجان قد تعرض لبعض المشاكل التي أعاقت انطلاقه في موعده المحدد في شهر يوليو الماضي، فتأجل إلى الشهر الخريفي، وكان هذا مناسبا أكثر لضيوف المهرجان، لأن الطقس أفضل كثيرا بالطبع في هذا الفصل عنه في قمة فصل الصيف، لكن يبدو أن المشاكل المالية التي ترتبت على الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها على المهرجان بشكل ما، فتقلص عدد المدعوين، خصوصا من الإعلاميين العرب (لم يحضر سوى كاتب هذه السطور والصحفي سعد القرش) كما تقلص حضور السينمائيين العرب أيضا (حضر من سوريا المخر ج حاتم علي دون أي من أبطال فيلمه "الليل الطويل"، كما حضر المخرج التونسي الياس بكار بفيلمه التسجيلي "حائط المبكى").


الجمعة، 6 نوفمبر 2009

المهرجانات العربية والصحافة

يضحكني كثيرا الذين يشتكون من سوء الخدمات الصحفية في مهرجان ما من تلك التي تقام في المنطقة العربية، شرقها وغربها، فلم تعد هذه الناحية تعد "اكتشافا" لأحد بل أصبحت من تحصيل الحاصل، فالمهرجانات "الدولية" في العالم العربي تتحد ضد الصحافة والإعلام منذ أن بدأت تسير خطواتها الأولى، وأنا هنا أقصد "كل" المهرجانات، لا أستثني منها أحدا.
معروف أن هذه المهرجانات التي تتشدق بالدولية والعالية واستقدام النجوم وأفلام العرض الأول وغير ذلك، لا تقيم أي وزن أو اعتبار لفكرة تخصيص عروض خاصة بالصحفيين والنقاد قبل يوم من عروضها الرسمية. وهم على استعداد لمحاكاة وتقليد كل ما يرونه في مهرجان كان مثلا، من بساط أحمر وحفلات افتتاح وختام واستعراض للنجوم وكلمات مفتلعة على المنصة، وغير ذلك، لكنهم لا يحاكونه فيما يتعلق بهذا التقليد الذي يعكس اهتماما بالصحافة والنقد، فهذا الجانب لا يشغل بال القائمين على أمر هذه المهرجانات، بل إن معظمها يتعامل مع النقاد بشكل فظ، ويعاقبهم على ما يكتبونه من آراء ويطالبهم بشكل مباشر أحيانا، وغير مباشر في معظم الأحيان، بالكتابة بشكل إيجابي، خصوصا عن شخصية رئيس المهرجان، وعيون مدير المهرجان، وكيف أنه المعي وذكي ويفهم في السينما رغم أن علاقته بها عادة ما تكون علاقة مستحدثة مثلما كان الحال مثلا في حالة مذيعة المنوعات التليفزيونية ذائعة الصيت نشوى الرويني (مهرجان ابو ظبي)، أو كما هو الحال مع مقدمة برامج التسلية في قناة الجزيرة الدولية أماندا بالمر مديرة مهرجان الدوحة- بالمر، المسمى الدوحة- ترايبيكا!
المهرجانات العربية تتفق جميعها على تهميش دور الصحافة والنقد والإعلام في كونها على سبيل المثال، لا تخصص قاعة حقيقية للكتابة والاتصالات تكون مجهزة بخمسين جهاز كومبيوتر على الأقل، تتوفر فيها أجهزة الطباعة، خاصة بعد أن أصبح كل الصحفيين حاليا يستخدمون البريد الالكتروني في إرسال مقالاتهم إلى صحفهم. وإذا وجد مكتب صحفي فهو يكون مجهزا بثلاثة أو أربعة أجهزة كومبيوتر في أفضل الأحوال، ويقتضي الأمر أن يصطف الصحفيون في انتظار دورهم الذي قد لا يأتي أبدا.
اما عن المطبوعات فلا وجود لها عادة، وأنا أقصد تحديدا ما يسمى بالكتيبات الصحفية عن الأفلام التي توزعها شركات الإنتاج أو الاسطوانات المدمجة.. فهذه غالبا ما يستولي عليها العاملون في المهرجان لحسابهم الشخصي، أو تهمل شركات الإنتاج والتوزيع ارسالها إلى المهرجانات العربية لأن هذه المهرجانات لا تهتم أصلا بان تفرض إرسال كمية مناسبة منها شرطا أساسيا لمشاركة أفلامهم في المهرجان على غرار ما يحدث في كل مهرجانات الدنيا التي تحترم نفسها!
أما ندوات مناقشة الأفلام فلا قيمة لها عادة، ويعد حضورها في معظم الأحوال، مضيعة للوقت، لأن الاشخاص الذين يكلفون بإدارة تلك المناقشات يتحولون، عادة، إلى مديري دعاية وتسويق للأفلام، ويحظرون توجيه أي تساؤلات أو آراء "خارج النص".. وهو ما يعكس غياب الحرية في مجتمعاتنا على نحو فادح، وتصورا معكوسا لدور النقد في توجيه السينما، واعتبار المهرجان حالة عرس لا يصح ان يقف أحدهم لكي يفسده بآراء "سلبية". وهي في النهاية محنة حقيقية، فكيف تقام مهرجانات تريد أن تكون "دولية" في مجتمعات تفرض الرقابة على الفكر والرأي والتعبير، ولاتزال تتعامل مع الفيلم الأجنبي مثلا على أنه "سلاح للغزو الفكري" و"اختراق مقدساتنا" و"القضاء على هويتنا"، وكلها تعبيرات تافهة لا معنى لها في عصر الفضاء المفتوح، ابتكرها في الماضي القوميون و"اليسارجيون" الذين تربوا في مدارس البعث والناصرية المنغلقة وغيرهما، لإقناع الأنظمة التي يعملون في خدمتها بتوظيفهم من أجل "مقاومة الغزو"!

الخميس، 5 نوفمبر 2009

'المسافر' وحديث الجوائز والمهرجانات


ردّاً على مقال أحمد يوسف


أدهشني كثيرا جدا أن يكتب الزميل الناقد أحمد يوسف مقالا (من اليونيسكو إلى فيلم 'المسافر': مؤامرة لقد خدعنا العدو الجبان- القدس العربي 27- 10- 2009) يعلق فيه بثورته المعهودة، على خروج فيلم 'المسافر' (الذي لم يشاهده) من مهرجان فينيسيا السينمائي (الذي لم يحضره)، بدون الحصول على جائزة، ويعتبر أن هذا 'الفشل' فشل لـ'الأمة' و'الدولة' أي مصر، بسبب غياب ما يسميه بـ'النظام' الذي يضبط الأشياء كما تفعل إسرائيل (من وجهة نظره).
ويقارن أحمد يوسف بين عدم حصول 'المسافر' على جوائز، وحصول الفيلم الإسرائيلي 'لبنان' (الذي لم يشاهده أيضا) على الجائزة الكبرى، معتبرا أن هذا يجسد بالضرورة التقدم الكبير الذي حققته السينما الإسرائيلية، بل ويؤكد أن إسرائيل تعرف - حسبما يرى - كيف 'تتآمر' علينا في المجال السينمائي، ويطالب بضرورة أن 'نتآمر' نحن أيضا عليها في نفس المجال، ويلوم الدولة - المؤسسة- وزارة الثقافة - المركز القومي للسينما - لجنة السينما وغيرها، على ذلك الفشل.ويدين أحمد كل من كتبوا عن فيلم 'المسافر' ويتهمهم بالسطحية والتلعثم وعدم القدرة على تبرير لماذا فشل الفيلم.
وليسمح لي أحمد يوسف أن أختلف معه، وأنا دائما مختلف معه في المنهج والطرح والأسلوب والرؤية، فهو ينظر إلى الإبداع السينمائي، وأقصد تحديدا علاقة الفيلم بصانعه أو بصاحبه باعتبارها علاقة أمة بصراعاتها السياسية والفكرية و'الحضارية'، أي أننا عندما نذهب لعرض فيلم في مهرجان ما فإننا نخوض صراعا مع 'الأعداء' على الصعيد الثقافي، ويصبح الفيلم بالتالي ممثلا للمجتمع والشعب والدولة والنظام، وهنا تصبح مهرجانات السينما ساحة صراع مفتوح ذات أبعاد 'قومية' على طريقة منتخبات كرة القدم التي تحولت مبارياتها إلى حروب مستعرة تغذي نيران الحقد والعنصرية والكراهية!
في حين أنني كنت أرى دائما، أن الفيلم عمل إبداعي فردي، أي أنه يعبر عن رؤية مبدعه 'الفرد' وليس عن الضمير الجمعي العام، كما أنه يمثل صانعه، لا المؤسسة التي صنعته أي الدولة أو وزارة الثقافة في حالة فيلم 'المسافر' تحديدا. وربما يكون الدليل على ذلك أن الفيلم يقدم رؤية سوداوية للشخصية المصرية منذ تسلسل النكبات بدءا من 1948، حتى ما بعد 2001 مرورا بـ1973، وهي تواريخ ذات دلالة دون شك، ويرى الفيلم أنه كلما سار التاريخ إلى الأمام، تراجع الإنسان 'المصري' إلى الوراء (وليس النظام ولا السلطة) وتضاءل دوره وأصبح أكثر 'كلبية' بالمفهوم الفلسفي أي cynical لا يقيم وزنا للبشر من حوله حتى عند زيارته للمشرحة التي يرقد فيها جثمان ابنه 'المفترض' حيث يسخر ويلقي نكاتا سخيفة فجة. ولا شك في أن هناك من أوحى إلى وزير الثقافة المصري فاروق حسني أنه بهذه الطريقة السلبية في التناول، يمكن أن يحقق الفيلم مصداقية في المهرجانات الدولية التي تنبذ عادة الأفلام الدعائية ذات الصبغة الرسمية، ولعل هذا أيضا صحيح بشكل ما.
هذا التفسير لمضمون الفيلم هو بالطبع ما كان أحمد ماهر المخرج ـ المؤلف، يأمل في توصيله باستخدام أبجديات السينما الحديثة. ولا بأس في هذه الرؤية، فلست من المعترضين على أي رؤية مهما اشتط بها الخيال، ولكن العبرة بالتجسيد والتعبير والقدرة على الإقناع. وقد أتاحت وزارة الثقافة للمخرج أحمد ماهر فرصة عمره لتحقيق حلمه الكبير، لكنه أهدر الفرصة تماما بسبب مراهقته البصرية والأسلوبية، وعجزه عن تجسيد فكرته بطريقة مؤثرة، يكون فيها من الشعر، ومن مفردات الحداثة البصرية، ما يغري أي مشاهد في العالم باستكمال المشاهدة، والقدرة على الاستمتاع بالصور والمعاني والرموز التي تتداعى من الصور التي يشاهدها.
وقد سبق أن كتبت ونشرت نحو 2500 كلمة في نقد وتحليل لماذا فشل 'المسافر' في الوصول إليّ أنا - على الأقل - كرجل درب نفسه منذ أكثر من ثلاثين عاما، على مشاهدة الأفلام الصعبة، والمغرقة في التجريد والرمزية واللجوء إلى الاستعارات وغير ذلك من أساليب السينما الحديثة، في حين كتب كثير من الصحافيين الذين ذهبوا إلى فينيسيا - على نفقة وزارة الثقافة المصرية جهة الإنتاج - في مهمة 'قومية مقدسة' لتبني الفيلم والدفاع عنه.
إن احمد يوسف يترحم في مقاله على دور الدولة في الإنتاج، وكأن وجود الدولة في حد ذاته (حتى مع وجود ذلك النظام الإنتاجي الذي يرغب في وجوده) سيكفل إنتاج أفلام جيدة.. ألم تكن دولة الستيينات الأبوية تنتج 'الحرام' و'القاهرة 30'، وكانت في الوقت نفسه تنتج 'من أجل حنفي' و'يوميات عازب' و'خذني بعاري'.. وكل ما عرف بأفلام حرف ب الرديئة (الشبيهة بأفلام المقاولات) والتي أوكلت إنتاجها إلى حلمي رفلة!
إسرائيل لم 'تنتصر'- باستخدام التعبيرات العسكرية - في 'معركة فينيسيا' لأننا تخاذلنا كأمة أو كشعب أو كوطن او كدولة أو كوزارة كما يرى أحمد يوسف، بل لأن الفيلم الذي ذهب أساسا لتمثيل مخرجه أحمد ماهر، وهو فيلم من الإنتاج المصري، كان رديئا من الناحية الفنية، وهو ما أجمع عليه كل خبراء السينما والنقاد الكبار في العالم، ومقالاتهم موجودة ويستطيع أحمد يوسف العودة إليها وأنا أعرف مدى اهتمامه بقراءة المجلات الأمريكية والبريطانية.وقد شاهدت بنفسي في العرض الصحافي الخاص بنقاد الصحافة اليومية (وهو يقام في قاعة خاصة) كيف بدأ الانسحاب الجماعي بعد 6 دقائق من بداية الفيلم، في حين أن فيلما مثل 'تيزا' الإثيوبي مثلا، وهو فيلم يبلغ طوله ساعتين ونصف الساعة، ويمتلىء بالمشاهد المتداخلة بين الأزمنة والأماكن، جعل نفس هؤلاء النقاد في الدورة السابقة (2008) يتسمرون في أماكنهم حتى النهاية ثم يصفقون له بحرارة، وجعل الفيلم يحصل على الجائزة الخاصة التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية!
لم تكن هناك مؤامرة، ولم يخسر العرب 'حرب فينيسيا'، ولم تربحها إسرائيل، بل فاز فيلم جاء من إسرائيل، بسبب حرفيته العالية، ورسالته السياسية التي تغري بعض محبي السلام بالتصويت له تحديدا بسبب مجيئه من دولة معروفة بمغالاتها في قوتها العسكرية واستخدامها. لإيجاز ما أردت قوله ليسمح لي الأستاذ أحمد يوسف أن اذكره بالنقاط التالية:

* إن 'المسافر' كان لا بد سيفشل حتى لو عرض على لجنة محايدة في مسابقة مثل مسابقة جمعية الفيلم بالقاهرة، وها هو قد فشل في الحصول على مجرد تنويه في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير.

* إن فوز الفيلم الإسرائيلي ليس فيه مؤامرة إسرائيلية حتى لو أمدته الدولة الإسرائيلية بالدعم والعون، بل لأسباب لم تخطط لها إسرائيل وإن سعت إليها وخدمتها الظروف، وبينما يعد السعي أمرا طبيعيا، فالتآمر والنجاح فيه في مهرجان دولي يصبح نوعا من الفضيحة الكبرى لأي مهرجان. ولماذا لم تتآمر إسرائيل لكي يخرج أي من أفلامها الثلاثة في مهرجان كان الأخير مثلا بجائزة أو أخرى؟ بل وكيف ذهبت إحدى جوائز النقاد الرئيسية (وكنت عضوا في لجنة تحكيم النقاد في كان) إلى الفيلم الفلسطيني 'أمريكا' وليس الإسرائيلي 'عيون مفتوحة تماما'؟ وعموما يمكن القول إن الفيلم الأفضل في مسابقة فينيسيا كان فيلم 'الرأسمالية: قصة حب' لمايكل مور، وليس الفيلم الإسرائيلي، لكن لجنة التحكيم لم تشأ ان تمنح جائزة المهرجان لفيلم 'مناهض' بوضوح للمؤسسة الأمريكية في الوقت الحالي أي بعد مجيء أوباما.
كتبت مقالا وحيدا تفصيليا عن فيلم 'المسافر'، ولم يكن بأي حال يحمل أي نوع من 'الشماتة' وهي الكلمة التي وصف بها أحمد يوسف ما كتبه 'البعض' عن الفيلم دون أن يحدد لنا هوية هذا البعض، ولعلي لم أر ما يوازي مقالي المشار إليه، من حيث التوسع والتفصيل والتحليل ولو في امتداح الفيلم وتفسيره من قبل 'نقاده' المخلصين الذين رشحوه للإنتاج أو من جانب الذين أوفدوا من طرف الوزارة للتمجيد للفيلم، بل قرأت مقالات صحافية سريعة لا تقول شيئا واضحا.. وقد افترضت أن أحمد يوسف لم يقرأ مقالي لذا فقد أرسلته إليه!
المشكلة ليست في تدخل الدولة من عدمه، بل في الثقافة السائدة في المجتمع، وفي النخبة المثقفة التي لا تعرف سوى استدعاء الدولة للبطش بمعارضيها تارة، أو بالرضوخ تحت التهديد لأفكار من القرون الوسطى والانحناء للعاصفة كما يقولون، فهل تشجع الدولة بالفعل الإبداع وتطلق العنان للتعبير الحر الجريء وتملك خطة لدعم الأفكار والسيناريوهات الجيدة المتوفرة بالعشرات في أدراج أصحابها، أم أنها تصادر بانتظام الإبداع، تارة باسم الدين وتجنب إثارة حساسيات طائفية في مجتمع يفاخر رسميا طيلة الوقت بتماسكه الاجتماعي ووحدته الوطنية، وتارة أخرى، باسم المحافظة على النظام الاجتماعي والأخلاق العامة وثوابت المجتمع - التي تتغير باستمرار على أي حال.. أليس كذلك؟
(نشر في "القدس العربي" بتاريخ 4 نوفمبر 2009)

الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

مرة أخرى: مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي

سهير عبد القادر مع عزت أبو عوف

بقلم: أمير العمري

الذين بدأوا يتكلمون – حسب الموسم- عن مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي عليهم أن يوفروا كلامهم، فالمهرجان سيستمر كما شاء له مؤسسوه ثم ورثته من سعد الدين وهبة الذي يضرب به البعض المثل في التفاني وحب السينما والادارة الرشيدة، إلى أعضاء جمعية المنتفعين بخراب السينما بل وخراب مصر من المهيمنين على كافة الأمور في المحروسة حاليا.
لم تنبع مشكلة المهرجان بعد رحيل سعد الدين وهبة، بل كانت قائمة منذ بداية المهرجان أي منذ أن أسسه الصحفي الراحل كمال الملاخ في اطار ما يسمى بـ"جمعية كتاب ونقاد السينما" بمباركة وزير "الأمن الثقافي" الساداتي المرحوم يوسف السباعي.
والذين يتباكون على أيام سعد وهبة تنبع مواقفهم بكل أسف، من إحساسهم بـ"العرفان بالجميل، فقد كان رحمه الله يشبه كثيرا عبد الحكيم عامر الذي كان يتصرف على اعتبار أنه "ابن العمدة" الذي يوزع العطايا على كل من يتقرب أو يقترب منه، أما من لا يقيم معه علاقة ولاء شخصي من أي نوع فلم يكن يلتفت حتى إلى وجوده. وكان سعد وهبة عموما يغدق على الكثير من الصحفيين والاعلاميين ويقرب منه المثقفين الذين يأمل في مساندتهم له، باستخدام سلاح الجزرة دون العصا، ودون الحظيرة.. ولعل هذه هي الميزة الوحيدة قياسا بما نشهده منذ 22 عاما على يدي "الوزير الرسام" وحاشيته!
وبكل أسف أيضا أقول إن أحدا في أوساط الانتلجنسيا السينمائية المصرية التي تزعم لنفسها الريادة والتقدم والسبق على أقرانها في العالم العربي، لم يكلف نفسه أبدا التساؤل عن علاقة سعد الدين وهبة أصلا بالسينما، وما إذا كانت كتابته بعض السيناريوهات واشرافه على احدى شركات الانتاج تسمح له بأن يستولي لنفسه على مهرجان القاهرة السينمائي ويضمه إلى خيمة "اتحاد الفنانين العرب" طوال سنوات، قبل أن تأتي الوزارة لتستولي بدورها عليه (منذ 1985) دون أن تعترف به ابنا شرعيا من أبنائها المباشرين (مثل مهرجان الاسماعيلية أو المسرح التجريبي..إلخ) أي دون أن يكون تابعا بشكل مباشر للدولة، ودون أن يكون مستقلا يحصل فقط على دعم من الدولة مثل مهرجان لندن السينمائي الذي لا يفتتحه بالطبع وزير الثقافة ولا أي وزير!
هل كان سعد الدين وهبة مؤهلا لأن يصبح الرئيس المتحكم في كل كبيرة وصغيرة في مهرجان القاهرة السينمائي فقط لأنه "رجل سلطة" ولأن السلطة سمحت له بأن يحصل على "اقطاعيته" الصغيرة داخل الدولة بعد أن خاصمه منصب الوزير؟
الإجابة بكل وضوح واعرف أنها ستغضب حملة لواء سعد وهبة: لا.. لم يكن سعد الدين وهبة يصلح إلا أن يكون ضيفا على المهرجان ربما يجري تكريمه في إحدى الدورات على ما قدمه من جهد في مجال السينما، (من 3 إلى 4 سيناريوهات) بينما أنفق معظم جهده على المسرح كما هو معلوم للجميع.
إذن ما الذي جعل "المرأة الحديدية" سهير عبد القادر على ما هي عليه أو ما أصبحت عليه (وأنا هنا أعلنها بملء الفم أنني أحتفظ بحق الامتياز في إطلاق هذا اللقب على هذه السيدة قبل نحو 5 سنوات في أكثر من مقال نشروا في مصر)، وهل كانت سهير عبد القادر بأي مقياس من المقاييس العلمية والفنية والأدبية، تستحق أن تحصل على لقب نائبة رئيس المهرجان؟
الإجابة أيضا وبكل وضوح: كلا.. فسهير عبد القادر التي كانت موظفة في مكتب سعد الدين وهبة في اتحاد الفنانين العرب (وهو كيان وهمي آخر ارتضت الدولة المصرية أن تركن إلى سعد وهبة مهمة رئاسته الفخرية التي لا يترتب عليها حتى دفع مرتبات من جانب الدولة) لم يكن أحد يعرف أي شيء يتعلق بعلاقتها بالسينما حتى كمتفرجة، ناهيك عن أنها لم تكن ناقدة سينمائية، ولا مخرجة، ولا مسؤولة في مؤسسة السينما السابقة، ولم يسبق لنا حينما كنا نجوب نوادي وجمعيات السينما في مصر طولا وعرضا في السبعينيات، أن عرفنا أصلا بوجود السيدة عبد القادر التي هبطت علينا فجأة بواسطة سلطة سعد الدين وهبة، لكي تصبح نائبة رئيس المهرجان، في حين أن مهمتها الحقيقية لم تكن تتجاوز القيام بأعمال الآلة الكاتبة وقص صور الضيوف و"تدبيسها" في البطاقات الخاصة بالمهرجان، إلى جانب القيام ببعض ما يسمى "التشهيلات".
وفي ظل الفراغ الذي خلقه سعد الدين وهبة حوله، بعد أن صادر المهرجان لحسابه، واستبعد كل من لهم صلة حقيقية وخبرة معروفة في مهرجانات السينما خوفا من منافسته على المنصب وكشف ضحالة معرفته بالسينما العالمية وتياراتها وأعلامها، فرضت سهير عبد القادر نفسها بقوة "البلطجة" والصوت العالي واهانة أشخاص قادرين، وان ارتضوا الوقوف في الظل، وأصبحت هي المديرة الفعلية للمهرجان حتى تخطت سلطتها سلطة الرئيس نفسه، بل انها نجحت حتى في التخلص من الرئيس الذي لم يعجبها ولم يكن يسير على هواها وهو الصحفي شريف الشوباشي، الذي هبط على المهرجان أيضا بسلطة وزير الثقافة الفنان، دون أن تكون له معرفة بالسينما.

سهير عبد القادر

وقد أصبحت السيدة سهير التي يرتجف أمامها عدد من كبار السينمائيين والنقاد والاعلاميين في مصر والعالم العربي، تستعذب أو بالعامية المصرية الأصيلة "تستحلي" حكاية السينما والسفر لمشاهدة واختيار أفلام من مهرجانات مثل كان وبرلين وغيرهما مع المرحوم سعد وهبة أولا قبل رحيله، ثم انفردت وحدها بالساحة، واصبح معروفا عنها أنها توقف أمامها كل صباح طابورا من المساعدين والمساعدات لكي تصدر إليهم هم التعليمات والأوامر بمنتهى الشدة العسكرية.. وكان هؤلاء بكل أسف، يطأطؤون رءوسهم ويطيعون في صمت رغم علمهم جميعا أن وجود هذه السيدة على رأس المهرجان (دعنا من حكاية الرئيس عزت ابو عوف من فضلك فهو "في الخارج لتناول الغذاء" أو كما يقول الانجليز ساخرين out to lunch) أمر مخجل لمصر امام العالم. ثم اقامت المرأة الحديدية علاقاتها الخاصة سواء بـ"القصر" أم بالخارج. وقد قال لي أحد النقاد في تونس العام الماضي متسائلا بسخرية: كيف تأتي هذه السيدة إلى تونس لتسأل سائقي التاكسيات عن أي معلومات لديهم عن الأفلام التونسية الجديدة!
ولكن الذين استيقظوا اليوم "لأسباب شخصية"، لكي يوجهوا انتقادات سبق أن وجهناها بوضوح منذ سنوات، وخصوصا العام الماضي في المقال الذي نشر في جريدة "البديل" القاهرية بعنوان "مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي"، لا يقولون لنا شيئا عن ذلك الفساد المنتشر في أروقة الثقافة والسينما والمشروع المستمر لتخريب العقول والأشخاص والمثقفين، بدلا من الحديث عن "قانونية" بقاء بعض الأشخاص في مواقعهم لأسباب شخصية، دون أن يشيروا- لأسباب شخصية- إلى واحد بعينه من أقدم وأبرز المتربعين على عدد من المناصب الأرقى والأكبر نفوذا في وزارة الثقافة بدون وجه حق منذ سنوات!

أود أن أختم هذا المقال بالقول إن مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي ليس لها حل فردي بمعزل عن الحل العام بكل أسف، فمهما خلصت نوايا البعض أو وجدنا من نتصور انه "يصلح" للمهمة، فالواقع نفسه سيرفض هذا الحل وذاك "الأصلح"، بل ستخرج من الجحور مئات الأفاعي والثعابين لكي تلدغ وتتهم وتشوه وتقوض وتتصارع من أجل محاصرة اي عمل للإصلاح، فإصلاح مهرجان القاهرة السينمائي يبدأ من حيث يبدأ إصلاح مصر.. التي انسدت ماسورتها تماما بكل أسف منذ سنوات بعيدة واصبحت في حاجة ليس إلى "تسليك" بل إلى "تغيير".. هل هذا الكلام واضح بما فيه الكفاية؟

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

فيلم "الزمن الباقي": قراءة جديدة


(( يسعدني أن أستضيف هنا الصديق العزيز الكاتب والمفكر الدكتور مصطفى نور الدين عطية مؤسس ومدير تحرير مجلة Cahiers de l’Afrée Naissances الفصلية المتخصصة في شؤون الطفولة والبيئة المحيطة التي تصدر منذ 1991 عن جمعية البحوث والتأهيل حول الطفل وبيئته AFREE في مونبلييه. وهو مثقف موسوعي ومحلل سياسي لا يكتب عادة في السينما لكن فيلم إيليا سليمان دفعه لكتابة هذا المقال الذي أجده إضافة حقيقية إلى النقد السينمائي الجاد والعلمي، ويصدر مصطفى أيضا موقعا الكترونيا باسم هوامش عنوانهhttp://www.haoamish.com/)).


بقلم: مصطفى نور الدين عطية


عرض فيلم "الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب" لكاتبه ومخرجه إيليا سليمان في رام الله والناصرة، في النصف الأول من يوليو، حيث تم تصوير الفيلم إلى جانب أن الناصرة مسقط رأس "سليمان". وقد بدأ عرض الفيلم في فرنسا يوم 12 أغسطس بعد أن شارك في مهرجان "كان 62" في 22 مايو الماضي.
واستقبل الفيلم بحفاوة في فرنسا حيث تعرضه 31 صالة في باريس وحدها. وعبرت عناوين مقالات نقاد السينما ما يقدمه سليمان من جديد في السينما الفلسطينية وعما يعكسه من حجم المأساة الفلسطينية وكأنه اكتشاف. فصحيفة "لو فيجارو" عنونت مقالها "الوقت الباقي : يوميات الكارثة الفلسطينية" وصحيفة "لا تريبن" : "فيلم مؤلم عن فلسطين" وصحيفة "لوموند": "الوقت الباقي : الجمع بين المضحك والظريف على خلفية حزينة إلى ما لا نهاية".
واحتفى الكثير من نقاد السينما العرب بالفيلم وقت عرضه في "مهرجان كان للسينما" وبعدها ومن بينهم صلاح هاشم وأمير العمري اللذين رشحاه لنيل "السعفة الذهبية" وافرد "العمري" تحليلا متميزا للفيلم اظهر فيه البعد الحداثي في معالجته (ونالت مقالته جائزة القلم الذهبي لهذا العام في مهرجان وهران السينمائي).
إن إيليا سليمان أبدع سينما من نوع جديد. فبعد "وقائع اختفاء" و"يد إلهية" قفز بالفن السينمائي العربي خطوة جديدة لتعكس حالة القلق الفلسطيني وليكون كل مشهد من مشاهد الفيلم فيلما بذاته. ومن هنا يصعب قص حكاية الفيلم حيث تتداخل حياة أسرة سليمان وتاريخ فلسطين منذ النكبة إلى موت جمال عبد الناصر وتفجر انتفاضة الحجارة ثم بناء حائط الفصل العنصري. فاللقطات هي لوحات بتوقف العدسة للتأمل ولتحكي حكاية بذاتها كجزء من الكل الذي بتجميعه تتجسد الدراما الفلسطينية. فالحوار في كلمات بين أفراد لا يشكل استمرارية لحكاية ولكن بيت شعر من مرثاة. والمشهد بين أشخاص لا يشكل تواصلا لمتابعة تطور درامي لقصة وإنما لاكتشاف حالة عقلية للأشخاص وللأوضاع معا. هذه اللغة السينمائية جديدة على السينما العربية لأنها مصاحبة لوجود جسدي لسليمان كممثل والصامت والناظر لكل حدث كما لو كان هو ذاته أحد المتفرجين.
وهذه الجدة لها جذورها كامتداد "لشارلي شابلن" و"جاك تاتي" و"باستر كيتون". فهي تجمع بين الصمت والفكاهة اللاذعة السوداء. هي تفتيت للفن السينمائي في شكله الخطي المنساب التقليدي بإدخال التفكيك "للقصة- التاريخ" وتحويلها إلى لوحات يلزم البحث فيها عن التفاصيل الخفية المضمرة وحيث الصمت هو اللغة التي تفرض نفسها على المشاهد. فالصمت بحسب "إيليا سليمان" هي لغة المقاومة الأكثر فاعلية في ظل المأساة الجارية. فمع كل لقطة أو حوار يلزم التوقف للفهم عند الدرجة المباشرة الأولى المعطاة كما هي ولكن القراءة الأكثر متعة هي في البحث عن مغزاها البعيد أي القراءة غير السطحية التي تقول الكثير عن الذات وعن الآخر أيا كان الآخر الفلسطيني أو الصهيوني. أي كيف يرى الفلسطيني نفسه في قلب التاريخ في صيرورته والتحول الذي يطرأ عليه من المقاوم الذي لم يلق السلاح ولو كان حجرا أو الذي أختار الرضوخ واللامبالاة يأسا والمتهكم ممن ينتظرون في مقاعدهم بصمت معجزة لن تأتي. فالتاريخ الفعلي لما حدث وقت "النكبة" هل هو كما تم سرده بدقة؟
هل استسلمت المدن واحدة تلو الأخرى أم سقطت بعد مقاومة؟ وما سبب استمرار "النكبة" إلى اليوم؟ إن استخدام الصمت كلغة سينمائية هو "انتفاضة عقلية" تفرض على المشاهد أن يستنتج بنفسه ما لا يقله "سليمان" حين يلعب دوره في الفيلم كجزء من تاريخ أسرته وتاريخ فلسطين بعد عودته من المنفى الذي فرضته عليه إسرائيل وهجرته لأمريكا.
وللسخرية أيضا مغزاها السياسي العميق. فسليمان يعيد تكرار ذات المشهد بذات الأشخاص في أوقات مختلفة في نفس الديكور ليعمق الفكرة التي أراد إيصالها للمشاهد. إن التكرار مرة بعد الأخرى في لحظات مختلفة من الفيلم هو لتجسيد التحول الحادث في الموقف السياسي والعقلي للفلسطينيين أنفسهم الذين يعاودون الظهور لكن من ناحية بثبات وصمت وانتظار لا نهائي لمن بقى من جيل النكبة وتحول لمن جاءوا بعدها ليصبح الثبات والتحول وكأنهما عملة واحدة بوجهيها.
فمشهد الشاب الذي يحي من يجلسون على مقهى من جيل "النكبة" بأن يمد يده ثم يسحبها ويفرقع أصابعه عندما يمد الآخر يده ليست للضحك وإن أضحكتنا. ومشهد ذات الشاب يمر أمام نفس الصحبة الجالسة في نفس الأوضاع فيلقي عليهم التحية بيده وفي المرة التالية عندما يمر يلقي عليهم التحية مرة ثم يلتفت إلى الاتجاه المعاكس ليلقي التحية على الحائط المواجه ثم عليهم ثم على الحائط وهكذا هو تعبير دون كلمات عن الصورة الذهنية لهم في ضميره... فقراءة لهذه المشاهد تعكس الانفصال الذي بدء يمس بعض من الجيل الجديد عن القضية التاريخية بالتهكم من الجالسين من بقايا الماضي.
والمشهد الأكثر دلالة والذي يجمع الفكاهة والمأساة معا هو ذاك الشاب الذي يخرج من منزله ليلقي شيئا في صندوق القمامة في مواجهة منزله وأمامه دبابة إسرائيلية تتابعه فوهتها في حركته من المنزل إلى صندوق القمامة دون أن يهتم وكأنه لا وجود لها ثم يرن هاتفه الجوال فيتحدث مع مخاطبه بالسير ذهابا وإيابا بعرض الطريق ومدفع الدبابة يتابع حركته. ويطلب من محدثه الحضور إلى للرقص في حفلة منظمة في المساء. وفي المساء يرقص الشباب على موسيقى معاصرة صاخبة بينما في الخارج تنبه عربة جنود إسرائيلية بمكبرات الصوت مرات متتابعة حذر التجول. ولكن انشغال الشباب هو العيش مجرد العيش كأفراد في مكان ما وان كان يضيق عليهم بحائطه العازل وينغمسون في الرقص كما لو كانوا في "حلقة زار" فهم ليسو موضوعا لحظر التجول. والجنود الإسرائيليون يدركون ذلك حينما يرقصون في عربتهم على ذات الموسيقى المنبعثة من الصالة تاركين الشباب في حالهم.
هنا تجسيد لنقيضين للتاريخ فالمقاومة في انتفاضة الحجارة أصبحت وحدها المقاومة الفعلية وتجسد النزع الأخير لوطن. والمقاومة كمخرج يمثلها في الفيلم الإيحاء بتقديم ما هو مشابه كما يجسد ذلك مشهد من فيلم "سبارتكوس" الذي يعرض في الفيلم على فصل دراسي لأطفال فلسطينيين. ولكن لا ينسى سليمان التشديد على ازدواجية في الثقافة العربية ذات طعم خاص ويعكسها الحاضر. فمحرر العبيد هو دعوة للثورة ولكن في لحظة تقبيل "سبارتكوس" لحبيبته تقف المدرسة لحجب المشهد عن التلاميذ بجسدها وتقول : "إنها أخته يا أولاد.. إنها أخته"! هنا طمس حقيقة المشاعر لا يختلف عن طمس الحقيقة في ذاتها التي تعم التاريخ العربي.
ولكن المقاومة في شكلها الأسطوري هي قفزة "إيليا سليمان" من فوق "حائط الفصل" بعصا "زانة" كرياضي يقوم بالقفز العالي. وهنا معنى خاص إذ يعتبر أن من بين الإسرائيليين فئة صادقة في مناصرتها للفلسطينيين لا معنى لمقطعتها والتواصل معها هو استمرار في المقاومة.
وأكثر ما يلفت الإنتباه في الفيلم كان هو صمت سليمان فظهوره كمشاهد في القسم الثاني من الفيلم يسجل بصمت ما يرى ويدعو المشاهد لمشاركته الرؤية. أي وجود ينفي فكرة التمثيل كلعب لحدوته خيالية. فلا داعي للكلمات لتصف نهب قوات "الهجاناه" الصهيونية لمنازل الفلسطينيين الفارين بعد هزيمة الجيوش العربية. ولا تعليق على تخفي هؤلاء الجنود بالكوفيات الفلسطينية لإيهام المواطنين بان العرب انتصروا في دخولهم المدن لكي يغتالوا من بقى منهم. ولا تعليق على إطلاق احد الجنود الرصاص على فلسطينية أطلقت "زغرودة" لتوهمها أن المقنعين الصهاينة هم المقاومة العربية. ولا تعليق على المواجهة بين أطفال الحجارة والجيش الصهيوني. دمعات ترقرقت في عيون الأسرة الفلسطينية دون نبس كلمة لحظات إعلان أنور السادات في التلفزيون نعي وفاة جمال عبد الناصر.
المبالغة مقصودة في الظهور الصامت لمخرج الفيلم وكاتب حكاية فلسطين بدءا من مذكرات أبيه المقاوم وخطابات متبادلة بين أفراد الأسرة وسماع روايات الذين عاشوا نكبة 48 قبل مولد إيليا عام 1960
وهذا الصمت ذاته يلعبه في علاقته بالآخرين مثل التواصل مع أمه إلي أسكتها المرض ولا تكاد تدرك ما حولها بإسماعها أغنية قديمة أحبتها فبدأت قدماها تعيد اللحن بدبدبة خفيفة.
ويتم التواصل مرة أخرى عندما يضع سليمان على أنف تمثال يمثل "السيدة مريم" أم المسيح فتبتسم الأم وتتخذ قرارها الذي لا يعارضها فيه سليمان بكلمة بنزع الأجهزة الطبية في العناية المركزة. وكأن وقتها مضى والوقت الباقي هو للآخرين.

الأحد، 1 نوفمبر 2009

نكتة مؤتمر المثقفين

((يسعدني أن أستضيف في هذا الموقع اليوم الصديق العزيز الكاتب الصحفي الكبير خالد السرجاني في مقال يعبر تماما عما أردت التعبير عنه، وربما أفضل مما كنت سأفعل، وهو يتعلق بالدعوة "المشبوهة" التي أطلقها مؤخرا الوزير- الرسام فاروق حسني في مصر لإقامة مؤتمر للمثقفين، وهي فكرة أوحى له بها فيما يبدو، أحد أتباعه في الوزارة، من الذين اطلعوا على سلسلة المؤتمرات التي عقدها وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة في اواخر الستينيات وقت أن كانت مصر تشهد مخاضا هائلا وحركة تغيير تمور تحت السطح وفوقه، في السينما والمسرح والأدب والشعر والإبداع عموما. وشتان ما بين الفترتين، وشتان أيضا بين الوزيرين)).

بقلم: خالد السرجانى

دعا وزير الثقافة إلي عقد مؤتمر للمثقفين، من أجل عرض أفكارهم وطرح برنامجه الذي عرضه علي المجلس التنفيذي للمنظمة الدولية من أجل أن يكون هو خطة العمل في وزارة الثقافة في مصر. وبالطبع فإن هذا المؤتمر ما هو إلا محاولة من الوزير لتأمين دخول المثقفين إلي الحظيرة، وحتي يضمن ألا يعارضه منهم أحد في هذه الفترة الحساسة التي تعقب هزيمته في اليونسكو، ولضمان بقائه في منصبه مدي الحياة.
ولابد من الإشارة أولا إلي البرنامج الذي قدمه إلي المجلس التنفيذي لليونسكو والذي لم يحظ بدعم من الأعضاء، حيث كتب سمير العطية في الطبعة العربية من «اللوموند دبلوماتيك» في مقال لم ينشر في الطبعة المصرية التي تصدر كملحق لجريدة الأخبار «أجمع كلّ من حضر المرافعة التي قدّمها السيّد حسني أمام المندوبين أنّها كانت أدني من المتوسّط»: دون خطّة لإصلاح المؤسّسة، في حين ظهرت انتقادات واضحة تتعلّق بسوء الإدارة السابقة، ودون توجّهات واضحة حول محاور التنمية في مجالات التربية والعلوم والثقافة وغيرها، تأتي بانطلاقة جديدة. هذا في حين لا تخلو مصر ولا البلاد العربيّة ولا حلفاؤهم من اختصاصيين في هذه المجالات، كان يمكن أن يكوّنوا طاقماً حول المرشّح ليقدّم مشروعاً بنّاءً وقويّاً لإدارة احترافيّة. وهكذا كان يُمكن للسيّد حسني أن ينجَح قبل ألاعيب الدورة الرابعة من التصويت. إلاّ أنّه، وللأسف، لم يصنع الفرق منذ المرافعة الأساسيّة من حيث وضوح الرؤية لمؤسّسةٍ تعاني من مشاكل عديدة».
ويضيف العطية: «المعركة كانت إذاً هنا علي الأرض، علي التفاصيل، علي البرامج، علي حسن الإدارة، وعلي هذه الأرضيّة كان تقييم مشروع المرشّح العربي: «أقلّ من الوسط». فلماذا قامت مصر بخوض هذه المعركة دون أسلحة؟ ثمّ اكتشفت بعد المعركة أنّ لها وللعرب أعداء؟ ولماذا لم ينجَح هؤلاء الأعداء في حالاتٍ أخري، كما بشأن السيّد محّمد البرادعي، الرئيس المصري السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية؟
ويختم كلامه بالقول: «الموضوع يتعلّق بأنّ الترشيح والمعركة لم يرافقهما طرحٌ محاور أساسيّة كان يُمكن أن تهزِم «وبسهولة» الابتزاز الأمريكي والإسرائيليّ «وعنصريّة بعض وسائل الإعلام الغربيّة النافذة» «وتخلق تضامناً قويّاً من العرب والأفارقة وأمريكا اللاتينيّة وغيرها.فحتّي لو تمّت خسارة المعركة حينها، فإنّها علي الأقلّ كانت لتكون خسارةً حول المبادئ والبرامج».
فهل يريد الوزير أن يطبق هذا البرنامج دون المتوسط في مصر، أم أن المؤتمر يتجاوز ذلك. وكيف يطبق برنامج أعد لكي يكون عالمياً يدعو إلي حوار الحضارات، في وزارة ذات طابع محلي. أم أن المؤتمر ما هو إلا خطوة من الوزير لكي يؤكد أنه مازال يستطيع أن يجمع «كل» المثقفين من ورائه علي النحو الذي سار عليه في بداية عهده عندما جمع له الأستاذ أحمد حمروش المثقفين في جامعة الدول العربية تحت مظلة اللجنة المصرية لتضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية لكي يعرض عليهم استراتيجية لم ينفذ منها شيئا حتي الآن.
ولنا أن نسأل الدكتور جابر عصفور ما المعيار الذي سيعتمد عليه لتعريف المثقف وهناك تعريفات متعددة لهذا المصطلح، أم أنه سيعتمد علي دعوة الكتاب وأعضاء لجان المجلس الأعلي للثقافة؟ وهل سيجد مثقفين يوافقون علي الجلوس مع ممثل لسلطة تعتقل «المثقف» مسعد أبو فجر علي الرغم من عشرات الأحكام القضائية التي قضت بالإفراج عنه، ولسلطة ترفض الإفراج عن «كريم عامر» بعد قضائه ثلاثة أرباع المدة وهو سجين رأي ومعتقد ولا تريد أن تساوي بينه وبين تجار المخدرات والسجناء الجنائيين.

ولنا أيضا أن نسأل هل استمع الوزير من قبل لآراء المثقفين ونفذ بعضا منها، حتي يعقد مؤتمرا لهم لكي يعرضوا تصوراتهم حول المستقبل وحتي لو كان سيعرض هو نفسه تصوره فهل هو مستعد للاستماع إلي تحفظاتهم أو تصوراتهم المضادة وتنفيذها؟
بالطبع لا، لأن الأمر لو كان يتعلق بديمقراطية الثقافة لكان السيد فاروق حسني هو آخر من يطبقها وتجربته علي مدي 33 عاماً تؤكد ذلك وتعييناته لكبار مسئولي الوزارة التي تتخذ طابعا شخصيا وعدم تطبيق القانون فيما يتعلق بخروجهم إلي التقاعد تؤكد ما نذهب إليه حول ديكتاتورية الوزير وشخصنته لوزارته، وعدم مشاركة «المثقفين» الحقيقيين في أي من قراراته واستخدامه الشكلي لهم تؤكد أن الهدف من المؤتمر هو الإيحاء لبعض المثقفين أنهم مشاركون في القرار والأهم هو تأكيده لمن يعين الوزراء أو يقيلهم أنه مازال يضع المثقفين في حظيرته. وذلك أحد المسوغات الضرورية لبقائه في منصبه.
إن دعوة الوزير لمؤتمر المثقفين لا تتعد أن يكون نكتة سخيفة طالما سمعنا منه العديد منها، وكلها تسعي إلي تدجين المثقفين وضمان ولائهم له، ولم نسمع منه أي حديث حول استقلالية الثقافة وإدارة المثقفين لأمورهم ومؤسساتهم، وعن استقلال المؤسسات الثقافية، لأنه لن يرضي الدولة التسلطية التي يعمل الوزير في إطارها. ففي كل دول العالم المتقدم، ماعدا فرنسا ذات التراث اليعقوبي المركزي لم تعد هناك وزارة للثقافة، تتبعها المؤسسات الثقافية، ولا يعني ذلك تخلي الدولة عن دعم الثقافة، وإنما عادة ما تكون هناك مؤسسات مستقلة تحصل علي دعم غير مشروط من الدولة. ولدينا في مصر مؤسسات من المفترض أن تكون مستقلة لكنها للأسف مستقلة اسما لا فعلا بسبب تدخل الدولة في شئونها، وعادة ما تتدخل الدولة من أجل إجهاض أي محاولة للاستقلال، ويكفي أن نشير إلي ما فعلته من أجل ألا يشكل الكتاب اتحادا أو نقابة مستقلة لهم، وسنت قانوناً جعل اتحاد الكتاب أسيرا لدي الوزير المختص وهو وزير الثقافة.
أما الجمعيات الثقافية العريقة فهي أسيرة لدي وزارة التضمن الاجتماعي التي تتحكم فيها عبر قانون الجمعيات، والمجلس الأعلي للثقافة الذي تأسس ليكون بديلا عن الوزارة في فترة ألغيت فيها الوزارة، مشكل من موظفين أكثر عددا من المثقفين والكتاب.
إن الاستراتيجية التي يجب علي المثقفين أن يبحثوها، ومن خارج إطار الوزارة هي كيفية الاستقلال عن الوزارة ذاتها، ولابد وأن تكون الأطر المعنية بذلك هي الأطر المختصة مثل اتحاد الكتاب، واتحاد الناشرين، و جمعية نقاد السينما، وجمعية الفيلم، واتحاد السينمائيين التسجيليين، وأتيليه القاهرة، ونادي القصة ونقابة التشكيليين، ونوادي هيئات التدريس بالجامعات. وغيرها من الأطر الثقافية المفترض أن تكون مستقلة. وعلي كل هذه المؤسسات أن تبحث فيما يعنيها أولا، كأن يبحث اتحاد الكتاب ما يتعلق بحرية التعبير والحريات الفكرية، وأن يبحث اتحاد الناشرين مستقبل صناعة الكتاب وعوائقه المتعلقة بالتصدير والاستيراد، فيما تبحث نوادي هيئات التدريس ما يتعلق بالحريات الأكاديمية، والجمعيات السينمائية تبحث في مستقبل صناعة السينما والعوائق الرقابية التي تعترض صناعة السينما في مصر.
ولابد من أن يبحث الجميع عن كيفية تحويل دور وزارة الثقافة من مهيمن علي العملية الثقافية إلي منسق لها، من دون صلاحيات كبري. فهل الوزير علي استعداد لمثل هذا السيناريو العملي المنتج البديل عن سيناريو تحويل مؤتمر المثقفين إلي مظاهرة لتأييده؟

(عن "الدستور" المصرية اليومية)
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger