الأحد، 27 سبتمبر 2009

رحلة بالكاميرا داخل عقل الإرهاب


تتناول عناوين الأخبار كثيرا موضوع الإرهاب والجماعات الإرهابية وما يكتنفه من غموض، وما يحيط به من طقوس وأساليب وطرق خاصة خفية، خاصة ما يتعلق منها بتجنيد عناصر يكون لديها الدافع من البداية للتورط في عمليات ترويع للآمنين من الناس.
وتتناول الأفلام التسجيلية والوثائقية المصورة للسينما والتليفزيون جوانب كثيرة تتعلق بموضوع الإرهاب، سواء من خلال أسلوب "التحقيق" الشهير وإعادة ترتيب الوقائع والمعطيات المتوفرة وتحليلها واستقراء الآراء المتباينة فيها، أو الاعتماد على المزج بين المواد المصورة وتقليب النظريات المختلفة ودعمها بآراء الخبراء والقريبين من الأحداث والاستعانة بمواد الأرشيف وغير ذلك.
غير أن الخيال السينمائي نادرا ما يتعامل بموضوعية مع موضوع الإرهاب والإرهابيين، فإما أنه يلجأ إلى الصور النمطية الكاريكاتورية للشخصيات التي تمارس العنف بغرض دفع المشاهدين إلى النفور منها، أو جعل الموضوع مسيسا تماما واستخدامه لطرح رسالة سياسية تتفق وأغراض صناع الفيلم.
وأحيانا ما تتعامل السينما مع الإرهاب من خلال منهج التحليل النفسي في محاولة للتعرف على الدوافع "المَرَضية" للإرهابيين، مع مزجه باستعراض الدوافع الاجتماعية المحتملة.
ولعل الفيلم الفلبيني "مدينة كافيتي" يتجاوز بجرأة يحسد عليها مخرجاه: إيان جامازون ونيل ديلا لانا، الخط التقليدي الذي يفصل عادة بين التسجيلي والروائي، وينتقلان في رحلة مثيرة بالكاميرا بهدف إعادة اكتشاف آلية الإرهاب من خلال عمل ربما يصلح أن يندرج في نوع أقرب إلى "سينما العصابات" على غرار "حرب العصابات".



دراسة بالصورة
هذا فيلم روائي (أي يفترض أنه خيالي) لكنه يعتمد على دراسة دقيقة موثقة للأماكن والشخصيات والأساليب التي تتبعها الجماعات الموسومة بالإرهاب في تجنيد العملاء واللجوء خلال ذلك السعي المحموم - إلى أكثر الوسائل تطرفا وانعداما للإنسانية.
تدور أحدث هذا الفيلم الصاخب في مدينة كافيتي الساحلية الواقعة إلى الجنوب من العاصمة الفلبينية مانيلا. هذه المدينة التي تمتلئ بمظاهر الفقر المدقع هي أبعد ما تكون عن الصورة السياحية التي تقدمها عادة الأفلام التي تدور في الفلبين. وصور أطفال الشوارع الفقراء في أسمالهم البالية والتكدس السكاني والمواصلات البدائية وتردي الخدمات والأحياء القصديرية ، كلها تختصر الوعاء الحاضن للإرهاب حسب ما يعتقد صناع الفيلم.
بطل الفيلم شاب في الثانية والثلاثين من عمره، فلبيني ولد ونشأ في الولايات المتحدة، عاد لتوه في زيارة إلى بلده الأصلي الذي لا يعرفه بل ولا يستطيع الحديث بلغته وإن كان يفهمه.
هذا الشاب (آدم) يفاجأ منذ وصوله بأنه أصبح مختطفا عن طريق هاتفه المحمول، فهناك من تمكن من الوصول إليه ومحاصرته طوال الوقت، من خلال الهاتف، بعد ان يخبره أن والدته وشقيقته اختطفتا وأصبحتا محتجزتين كرهينتين.
والمفترض أن عناصر تابعة لجماعة أبو سياف هي التي اختطفت والدته وشقيقته، وأن زعيم الجماعة هو الذي يخاطبه عبر الهاتف، يصدر له تعليمات صارمة يتعين عليه أن ينفذها في الحال وإلا قتلت الرهينتان.
والفيلم مصور باستخدام كاميرا حرة محمولة على اليد، ونحن نشاهد الأحداث من وجهة نظر (آدم) الذي يبدو وقد اصبح سجينا داخل إطار الصورة، يحاول طيلة الوقت الإفلات والتذرع بشتى الذرائع، ولكن دون جدوى.
يطلب (الزعيم) منه أن يتبع رجلا يسير في الشارع، إلى أن يشاهد ما يحدث للرجل الذي يذبحونه في أحد الشوارع الخلفية، ويقال له إنه قتل لأنه لم ينصاع لتعليمات الجماعة، ويحاول آدم الفرار لكنه يجد نفسه محاصرا، يختطف طفل حقيبة يده ويهرب، يتابعه آدم محاولا استعادتها، لكن "الزعيم" يحذره بقوله: أنت لست في حاجة إليها.
يطلب منه أن يشتري بيضة ويكسرها ويشرب ما في داخلها، يشعر بالقرف الشديد والغثيان، ثم يتوغل في حي من الأحياء الهامشية التي لم يسبق أن دخلتها كاميرا سينمائية من قبل، يطلبون منه التوجه إلى البنك وسحب مبلغ 75 ألف دولار، هي كل ما تركه له والده الذي قتل لأنه رفض الانصياع للجماعة.
ويكتشف أنهم يعرفون كل شئ عنه وعن أسرته بل يقال له إن والده كان عضوا في الجماعة، وإنه قام بتفجير حافلة في مانيلا راح ضحيتها 28 شخصا. يرفض مذهولا تصديق ذلك، يحاول التمرد والنكوص، يتوسل بكل طريقة أن يعفونه من المهمة وأن يرحما والدته وشقيقته، يلومه الزعيم على إهماله للدين، واستغراقه في المجتمع الأمريكي الذي أنساه أصله وثقافته ودينه.


غسيل مخ
آدم يقول له إن الإسلام الذي يتحدث عنه هو دين الرحمة والتسامح والمغفرة، وإن أمثاله هم الذين يسيئون إلى الإسلام. يأمره الزعيم بشراء تذكرة لمشاهدة مصارعة الديوك التي تجري في أماكن بدائية بطريقة وحشية. يقول له إنهم قتلوا والده لأنه وشى بهم للسلطات.
إنها عملية غسيل المخ المنظم التي تتبعها الجماعة.
يتمكن آدم من سحب المبلغ بالفعل، يأمرونه بالحصول على حقيبة من طفل يلتقطها ويذهب، يعتقد أن في داخلها قنبلة، ويطلبون منه التوجه إلى بلدة قريبة لوضعها داخل كنيسة.
يرفض ويصر ويتشدد في الرفض: لا أستطيع أن أفعل ذلك.. ليس ممكنا.. بطارية الهاتف المحمول فرغت من الشحن، يختطف هاتفا من يد فتاة في الشارع ويتكلم مع الزعيم، يقول له الأخير إنهم قتلوا والدته لأنه لم ينفذ التعليمات. يصرخ غضبا وحنقا وإحباطا: لقد ماتت البطارية.. كنت أبحث عن هاتف. يبكي من شدة التأثر، يوشك على الانهيار التام.
لم تُقتل والدته لكنهم قطعوا لسانها، كما يسمع عبر الهاتف وسيقتلون الرهينتين إذا لم ينفذ المطلوب. هذا ما يخبره به الزعيم. يوافق في النهاية مضطرا راضخا.
الزعيم يحدثه عن المذابح التي ترتكبها الحكومة ضد المسلمين وقيامها بتدمير آلاف من منازلهم. "لقد قتلوا 69 مسلما داخل مسجد و يأمره بدخول مبنى كنيسة قديمة في البلدة، يصر على البقاء إلى جوار الحقيبة التي بداخلها القنبلة. الزعيم يأمره في إلحاح مشوب بالتهديد الحاد بتركها ومغادرة الكنيسة.
يغادر الكنيسة.. لا نرى الانفجار.. موسيقى الناي الحزينة تغلف المشهد.. يقول له الزعيم عبر الهاتف: "اذهب وتطهر من ذنوبك.. اعتتنق الجهاد".

يتذكر الفتاة التي أراد الزواج منها في أمريكا وهي تقول له: "لا أستطيع أن أنجب ابنا مسلما".
يتجه في النهاية يتوضأ ويصلي، وينتهي الفيلم الغريب ويتركنا مع تساؤلات عن مصير بطله: هل يصلي ندما وتوبة على ما اقترفت يداه، أم نزولا على ما نصح به "الزعيم"؟ هل آدم في طريقه للانضمام إلى الجماعة والانسلاخ من ثقافته الأخرى "الأمريكية"، هل جذبته التربة الفلبينية وعاد إليه وعيه وانتماؤه، أنه فقد حريته وأصبح آلة في يد عصابة لا تعرف الرحمة.
الفيلم بأكمله يبدو مصورا في لقطة واحدة ممتدة، واللقطات إما قريبة للشخصية الحبيسة، أو عامة لتحقيق الإحاطة بالمكان من جهة، وخلق التناقض الحاد مع اللقطات القريبة من جهة أخرى.
ويجعل مخرجا الفيلم بطله القادم من الخارج، من الثقافة الأخرى، يتحدث بالإنجليزية، بينما يخاطبه "الزعيم" باللغة المحلية.

واقعية تسجيلية
ويعتمد الفيلم على الإيقاع السريع اللاهث، وعلى الكاميرا الحرة اتي تجعل المنظور يهتز، والصورة تتأرجح لكي تعكس حالة الاضطراب الشديد التي يعاني منها البطل.
ويستخدم المخرجان طريقة كتابة التوقيت والتاريخ والمكان على الشاشة في كل مشهد، لمزيد من إضفاء الواقعية التسجيلية على الأحداث.
ورغم الواقعية الصارمة في بناء وتصميم المشاهد واللقطات، لا يكشف الفيلم عن آلية الإرهاب من خلال مشاهد التفجيرات والشخصيات الشيطانية التي تظهر عادة في الأفلام، بل من خلال الكشف عن القناعات الثابتة من خلال الحوار، وعملية غسيل المخ القاسية التي يتعرض لها البطل.
ويبتعد الفيلم عن تصوير مشاهد العنف باستثناء لقطة واحدة لذبح رجل في الطريق، فاهتمام الفيلم ينصب أكثر على سيكولوجية الإرهاب وليس على أشكاله المباشرة. وهو درس في البلاغة لمن يريد أن يرى ويتعلم.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة ولا يجوز اعادة نشر هذه المادة دون إذن من ناشر المدونة))

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger