الخميس، 28 مايو 2009

"أمريكا" الفيلم الفائز بجائزة النقاد في مهرجان كان

كان فيلم "أمريكا" Amreeka للمخرجة الفلسطينية شيرين دعبس المقيمة في الولايات المتحدة، أحد ثلاثة أفلام حصلت على جوائز لجنة النقاد الدولية في مهرجان كان السينمائي. وقد أستحق الفيلم الجائزة عن جدارة كأحسن فيلم عرض في قسم "نصف شهر المخرجين"، فهو متعة للعين وللأذن، وتجربة تتمتع بالجدية والإتقان الحرفي إلى جانب الوضوح الفكري.
فيلم "أمريكا" يبدأ في مدينة رام الله بالضفة الغربية حين تتلقى "منى" وهي امرأة في منتصف العمر، مطلقة لديها ولد مراهق، البطاقة الخضراء التي تتيح لها الإقامة في الولايات المتحدة.
البطاقة الخضراء تعد فرصة من وجهة نظرها للإفلات من المتاعب اليومية المتكررة، نقاط التفتيش، واقع الاحتلال، التوتر الحاد الذي تشهده البلاد عشية الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
"منى" مع "ابنها" فادي الذي يرفض في البداية السفر إلى الخارج، حتى لا يبتعد عن أصدقائه، يفترض أن يلتحقا بشقيقتها "رغدة" المتزوجة من طبيب فلسطيني يعمل في إلينوي ولديها منه ثلاثة أبناء.
وتدور أحداث الجزء الثاني وهو الأكبر من الفيلم، في الولايات المتحدة، مع وصولهما إلى مطار شيكاغو، ثم فقدان كل مدخرات منى بعد أن تصادر سلطات المطار علبة من المأكولات كان المبلغ (2500 دولار) موضوعا معها في نفس الكيس.

بداية متعثرة
وتصل منى من البداية إلى أمريكا مهزومة بعد فقدان مدخراتها، ثم سرعان ما تشعر بثقل العيش مع أسرة شقيقتها: الزوج يعاني من انحسار زبائن عيادته بسبب تأثير الأوضاع السياسية، وتفشي الاعتداءات العنصرية مما يجعله يتسلح بما يجعله متأهبا لمقاومة أي اعتداء على منزله.
وتفشل منى أيضا في العثور على عمل يتناسب مع وظيفتها الأصلية في بلدها كموظفة في أحد المصارف، فتضطر للعمل في مطعم للمأكولات السريعة. لكنها تخفي الأمر على شقيقتها وابنها وتتظاهر بأنها تعمل في المصرف المجاور.

الطابع السياسي
الجو السياسي واضح تماما في الفيلم: انعكاس الغربة على أسرة فلسطينية تعيش في المهجر، الاعتداءات العنصرية التي يتعرض لها فادي من جانب طلاب في المدرسة، المحيط المختلف الذي يهدد بتمرد "فادي" على والدته وانسحابه بعيدا إلى حيث يتعاطى المخدرات، والمناقشات السياسية الساخنة التي تدور في حجرات الدراسة بين الطلاب.
ورغم ذلك، تنجح شيرين دعبس، وهي نفسها كاتبة السيناريو، في دفع الأحداث بسلاسة، مضفية نوعا من المرح الذي ينبع من المفارقات الكوميدية والتناقض بين الشخصيات في سلوكياتها، مما يخفف كثيرا من ثقل الأحداث وإن كان لا يلغي جدية الموضوع.
الشخصيات واضحة وبسيطة، وخاصة شخصية "منى" التي تقدم كنموذج للمرأة العادية، فهي لا تتمتع بجمال خارق بل إنها أقرب إلى البدانة، وهي تتحدث عن بدانتها وحاجتها لإنقاص وزنها بصراحة، ودون خجل، كما تضفي تلقائيتها البسيطة صدقا خاصا على الشخصية. هي مثلا تتحدث عن زواجها السابق منتقدة سلوكيات زوجها، ردا على سؤال مسؤولة الهجرة في مطار شيكاغو، ثم مع موظفة البنك الذي ترغب في العمل به.

تميز الحوار
ويتميز الحوار بوجه خاص، بالتلقائية والسلاسة وخفة الظل: هناك مثلا حوار يدور بين منى وزميلها الشاب في العمل بالمطعم حول الشطرنج.

عالية ثابت التي قامت بدور ابنة الشقيقة

عندما تعرف منى أن اسم زميلها "مات" تقول له إن معنى اسمه بالعربية "ميت" أي أنه الآن شخص ميت. وعندما تلمح قطعة من قطع الشطرنج معه تقول له إن الشطرنج لعبة عربية في الأصل، وإن الغربيين يستخدمون كلمات عربية مثل "شيخ مات" أي "الشيخ مات" دون أن يعرفوا أنها كلمات عربية.
وخلال مكالمة هاتفية بين منى ووالدتها في رام الله تقول لها الأم إنها لا تريد أن تلحق بها في أمريكا بل إنها لا تحب أمريكا، وتطلب منها إبلاغ رسالة إلى الرئيس بوش، بأن يوقف حربه على العراق ويتوقف عن دعم إسرائيل. هذه الرسالة السياسية الواضحة تقدم بنوع من المرح في الفيلم وبحيث يستوعبها المشاعد الغربي الذي صنع هذا الفيلم أساسا من أجله.
وتبتكر منى أيضا مأكولات خاصة تطور بها ما يقدم من مأكولات سريعة في المطعم الأمريكي فتدخل خلطة خاصة فيها الفلافل العربية، وهي وجبة تلقى قبولا لدى "مات" أولا، ثم لدى مدير المدرسة، المطلق مثلها الذي يبدي إعجابا خاصا بها.
وسرعان ما يتضح أنه يهودي من أصل بولندي لأسرة من المهاجرين، وهو لهذا يتفهم معاناة الأسرة الفلسطينية في المحيط العنصري.
وينتهي الفيلم نهاية مفتوحة متفائلة رغم كل المعوقات، تشير إلى أن منى ستعثر على عمل في البنك، وأن فادي سيواصل تعليمه وسيتكفل الزمن وحده بأن يجعله يتكيف مع زملائه في المدرسة الذين ينعته بعضهم بـ"أسامة" في إشارة إلى أسامة بن لادن.

براعة الأداء
شيرين دعبس في تجربتها السينمائية الأولى تبدو واثقة من أدواتها: إخراج المشاهد بحيث لا يفلت إيقاعها منها، القدرة على التحكم في الحركة الحرة للكاميرا، والإضاءة التي تنبع من مصادر طبيعية تكسب الصورة الطابع الواقعي، والشريط الصوتي الذي يتميز بالأغاني والموسيقى العربية، تأكيدا على الهوية طيلة الوقت.
وتتحكم شيرين جيدا في أداء الممثلين وعلى رأسهم بالطبع نسرين فعور في دور منى، بكل تلقائيتها، وتعثرها في نطق اللغة الإنجليزية، وتناقض صراحتها وتلقائيتها في الحديث مع الطريقة الغربية المتحفظة، وعموما أدائها من ابرز عوامل نجاح الفيلم في توصيل رسالته.
ويتميز أداء هيام عباس كعادتها، في دور الشقيقة "رغدة" بخفة ظلها، وتعليقاتها التلقائية، الساخرة حينا من الصورة المحيطة، أو الداعمة حينا آخر لشقيقتها والمشجعة لها على الاستمرار في الصمود.
وفيلم "أمريكا" أخيرا فيلم لا يدعي ولا يتظاهر، بل يكتفي بتقديم تلك الصورة الإنسانية البسيطة الدافئة لأناس عاديين يريدون العثور على مكان لهم في الحياة، ويترك المشاهد لكي يتوصل إلى استنتاجاته بنفسه.
شيرين دعبس حصلت على عدد من الجوائز والتقديرات عن الأفلام القصيرة التي كتبت لها السيناريو، قبل أن تكتب وتخرج "أمريكا" وهو فيلمها الروائي الطويل الأول.

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger