الأربعاء، 18 فبراير 2009

عن أفلام الرسوم: هل هي للصغار فقط؟



((تلقيت قبل أيام الرسالة التالية التي الهمتني كتابة الموضوع الذي يعقبها والذي أثاره الرد على الرسالة التي تعكس شغفا حقيقيا بنوع من السينما أهملناه)).
أخي العزيز:
أراسلك بخصوص فرع من فروع السينما الحالية ألا وهي الرسوم المتحركة .
أخي العزيز: الرسوم المتحركة هي أكثر العناصر ظلما في السينما حسب رأيي المتواضع واطلاق الأحكام عليها ومعاملتها بطريقة مجحفة جعل منها عنصرا منبوذا في كثير من الأحيان خصوصا هنا في عالمنا العربي .
كثيرا ما تُعامل على أنها موجهة للأطفال ولا أعلم ما هو السبب. ربما تكون النشئة هي ما خلق ذلك التفكير ففي بدايات قيمها تزعمتها الولايات المتحدة بانتاج توم وجيري مما جعل هذه الرسوم ذائعة الصيت في العالم ككل والعالم العربي خصوصا نظرا للآلة الاعلامية وتوجه أنظار العالم كله نحو الولايات المتحدة على أنها الوجه الجديد والمثير لكل شيء فقدمت لنا تلك النماذج ودعمتها بكثير من الجوائز لخلق الجو المناسب لتسويقها .
في اعتقادي أن ما حث أمريكا على القيام بذلك هو رؤية سياسية بحته ليس أكثر، تقديم هذا المنتج الجديد بشكل مثير ويجلب الانتابه العالمي نحوه، تقديم الجوائز لهذا الوجه الجديد لتعيم تواجده في أوساط العالم، والاعلام المسلط على الولايات المتحدة وجميع ما تفعله. جميع هذه العناصر أعطت أمريكا تصريحا بالتصرف بهذا النوع الجديد من الفن كما يحلو لها، والتوجيه صار يتم على يدها، والمضمون والمحتوى صار يوضع على ما تريد، وهي التي قررت لنا إلى من سيكون هذا الفن الناشئ، نعم انه الفن الموجه للأطفال .
عندما تقرر إلى من سيكون له هذا الفن تقرر توجيه بناء على مصالح سياسية بحته، وصرنا نرى ما يلمع صورة الانسان الغربي في كل لقطة، وصرنا نرى الاساءة للثقافات الشرقية في كل لحظة، صرنا نرى تبريرا لكل ما يريده ويدعو له الانسان الغربي المتحضر في كل حين. وبذلك حكموا على ذلك الفن بالخروج من دائرة الانسان إلى الساحات السياسية والتوجهات التي تخدمها نظرا لكونها وسيلة تم الترويج لها مسبقا على أنها ملك لأمريكا ولها الحق في توجيهها أينما تريد .
الاشكالية أن تلك الحركة أتت ثمارها هنا في عالمنا العربي فنشأ لدينا جيل من السينمائيين ونقادهم لا يعرفون شيئا عن الفن المسمى بالرسوم المتحركة، كل ما هنالك أنهم اكتفوا بما قدم لهم في صورة مسبقة بأنه فن موجة للأطفال ووقفوا على ذلك، كثيرون ممن تحدثت مهم عن هذا النوع من الفن استوقفوني بأنه غير مثير للاهتمام وبأنه لا يعدو كونه موجه للنشئ فقط، لا أعلم هل هذا الحكم ناتج عن تفكير مسبق أم ماذا ؟ أليس هذا الفن يستوجب لوجوده على أرض الواقع مخرج وسيناريو وجميع عناصر الفن السينمائي ؟ أليس يوجد في السينما ما هو عار ان يسمى فيلما كأفلام إد وود وهلم جرى؟ إذا الفن هو من يخرجه وبفكر من يخرج وليس بالصور المسبقة التي طبعت عنه. الفن قابل للتمدد ليشمل جميع الأطياف الانسانية ويستطيع أن يقدم لهم جميعا ما يريدون، ومن يحدد توجه الفن هو الانسان لأنه صنع له وليس من يصنعه، معيار الجودة الفنية هو من يقدمها وليس من حكم عليها مسبقا بتصور موجه بفكر سياسي أوما شابه. في مقابل ذلك التوجه الذي كان ينتج لنا توم وجيري كان هناك توجه لم يكن يملك تلك الصورة الاعلامية التي كانت لدى الولايات المتحدة، كان فن يخرج لنا روائع كانت مجهولة ومنكرة في عالمنا العربي نظرا لكونها تخالف التوجه السائد الذي كان ينظر للفن نظرة منكرة. كان هناك الروائع من أمثال قبر اليراعات وجون حافي القدمين وسبيرتد أوي. كان هناك مخرجون من أمثال هياوا ميزاكي وأيزاوا تاكاهاتا وساتوشي كون وغيرهم ممن قدموا لنا أعمال تأرخ لهذا الفن الجميل. لا أعلم من يحكم على ذلك الفن بالطفولي كيف يستطيع أن يحكم على قبر اليارعات بذلك وهو المثقل بالحس الانساني والأعاجيب السينمائية الكثيرة. لا أعلم من يحكم على ذلك الفن بالطفولي كيف يحكم على جون حافي القدمين بذلك وهو مثقل بالهم السياسي ويخرج لنا بتريحات لا يستطيع اخراجها الكثير في فيلم حي لا أعلم من يحكم على هذا الفن بالطفولي كيف يحكم على همس القلب بالطفولي.. والقائمة تطول.
أتأسف للإطالة لكنها مشاعر متدفقة لم أستطع كفها ولك تحياتي.
منصور الحقيل- نجد- السعودية

ردا على رسالة الأخ منصور، أود أولا أن أشكرك على مبادرتك بالكتابة في هذا المجال ومحاولة لفت الأنظار إلى أهميته وتأثيره الكبير. وأتفق معك فيما ذهبت إليه من أن الولايات المتحدة أولا حاولت تسويق ذلك الفن باعتباره "أمريكيا" ومنحته الصبغة الأمريكية وجعلته تعبيرا عن نمط الحياة الأمريكية وقوالبها وقيمها. وهذا طبيعي، فالفنان يعبر عن بيئته. أما الاستخدام السياسي فأيضا ليس بعيدا عن اهتمامات صناع هذا النوع من الأفلام. وهذا أيضا طبيعي. والطبيعي أيضا أن يتجه أصحاب الثقافات الأخرى إلى الاهتمام بهذا الفن وجعله وسيلة للتعبير عن مفاهيمهم الثقافية، لكن هذا لم يحدث في عالمنا العربي، بل ان ما ظهر من محاولات كانت ساذجة وكانت، كما أشرت أنت بوضوح، موجهة أساسا للأطفال، وتريد أن تصور لنا هذا النوع من أفلام الرسوم (التي يطلق عليها البعض أفلام التحريك على أساس أنها لا تقوم فقط على الرسوم بل على تحريك النماذج المجسدة أيضا) على أنها أفلام للأطفال فقط.
غير أن اليابانيين مثلا بدأوا منذ نهاية الستينيات في صنع أفلام رسوم للكبار وليس للأطفال فقط، وهناك أفلام شهيرة في هذا المجال مثل "أكيرا" لكاتسوهيرو أوتومو، وفيلم "شبح في القوقعة" لمامورو أوشي. لكن المشكلة أن الأفلام اليابانية لم تنجح في الوصول إلى العالم بسبب تحكم شركات التوزيع الأمريكية الكبرى في السوق العالمية، وبسبب سيادة وشيوع اللغة الانجليزية في عدد كبير من البلدان وتفضيلها. وخلال السنوات الأخيرة فرضت أفلام الرسوم اليابانية نفسها في الأسواق الأوروبية بعد ما حققته من نجاح كبير في المهرجانات السينمائية الدولية. وقد عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الأخير (2008) فيلمان من أفلام الرسوم اليابانية وهو حدث نادر من نوعه. وتحول فيلم "أكيرا" الياباني إلى أحد أكثر أفلام الرسوم المصنوعة للكبار رواجا وانتشارا.
وكان مهرجان فينيسيا قد منح المخرج السينمائي الياباني هاياو مازاياكي Hayao Miyazaki جائزة الأسد الذهبي عن إنجازه السينمائي طيلة حياته، وكانت تلك المرة الأولى التي يحصل فيها مخرج لأفلام الرسوم المتحركة على جائزة على هذا المستوى الرفيع. ومازيايكي معروف بأسلوبه الذي يمزج بين الطابع الرومانسي والطابع الإنساني، وتبحث أفلامه مواضيع موجهة للكبار أساسا تتناول علاقة الانسان بالطبيعة وبالتكنولوجيا ومن أفلامه البارزة "الأميرة مونونكي" و"القلعة المتحركة" و"حورية على ربوة بجوار البحر" والأخير كان أحد الفيلمين اللذين عرضا في مسابقة مهرجان فينيسيا الأخير كما أشرت، وكان مرشحا بقوة للفوز بالجائزة الكبرى، وقد منحه النقاد الحاضرون في المهرجان المرتبة الأولى وأكثر الافلام التي استمتعوا بها طوال المهرجان.
هناك مشكلة تتمثل في أن فيلم الرسوم يتكلف ميزانية طائلة قد تتجاوز المائة مليون دولار بعد اضافة تكاليف الدعاية. ويجب أن تضمن شركات الإنتاج تحقيق أرباح، أو أنها على الأقل لا ترغب في المغامرة بصنع أفلام للكبار لا يقبل عليها لا الكبار ولا الصغار. فلابد من توفر موضوع مثير جاد، ليس بالضرورة خياليا مطلقا لكي يشد الكبار أيضا.
وقد ظهرت محطات تليفزيونية متخصصة في عرض أفلام الرسوم منها محطة Cartoon Network التي خصصت مساحة لعرض أفلام رسوم للكبار تقوم بانتاجها علما بأن الانتاج للتليفزيون أقل تكلفة بكثير من الانتاج للسينما في حالة أفلام الرسوم تحديدا.
إحدى المشاكل، التي ربما تكون أنت قد أشرت إليها في رسالتك، هي أن النظرة السائدة لأفلام الرسوم باعتبارها موجهة فقط للأطفال تعود إلى أن معظم هذه الأفلام تفضل الإغراق في الخيال المطلق أو الفانتازيا، بينما هناك أفلام تصلح دون شك للكبار والصغار وقد حققت نجاحا مدويا منها على سبيل المثال فيلم Lion king أو الأسد الملك الذي حقق أرباحا طائلة، وهناك أيضا الفيلم التشيكي العظيم "أليس" Alice للمخرج الشهير في مجال الرسوم يان سفانكماير Jan Svankmajer الذي شاهدته قبل عشرين عاما ولا أستطيع نسيانه حتى اليوم.
وقد ابتكر ماكس فليشر طريقة عرفت باسم rotoscoping تتلخص في تصوير الفيلم أولا باستخدام شخصيات وحركة حقيقية تماما، ثم يقوم الرسامون بالتلاعب في الأشكال والصور وتحويلها - صورة صورة- إلى رسوم بالرسم فوقها عن طريق جهاز خاص يعرف بالـ rotoscope. وقد استخدم المخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر هذه الطريقة في فيلميه Slacker و"حياة تسير" Walking Life وهي أفلام مختلفة تماما في رسومها وأسلوبها.
ولم يعد الأمر يقتصر على المواضيع الفانتازية أو المغرقة في الخيال فقط بل إن فيلما مثل الفيلم الإسرائيلي الحديث "الرقص مع بشير" Waltz with Bashir يقدم عملا "وثائقيا" باستخدام الرسوم، وهو بالتالي موجه للكبار، فهو فيلم جاد تماما يدور عن تجربة الجيش الإسرائيلي في الحرب على لبنان عام 1982. أما موضوع الفيلم وتفسيره فموضوع آخر تناولته من قبل في هذه المدونة وساعود إليه لاحقا لأهمية الجدل الدائر حوله.
وهناك أيضا فيلم "برسيبوليس" Persepolis للمخرجة الإيرانية ماريان ساترابي مع الفرنسي فنسنت بارونو (دائما ما يغفل اسمه لأسباب سياسية) على عدة جوائز عالمية، وهو فيلم جاد تماما، يروي قصة حياة فتاة منذ نشأتها في طهران حتى هجرتها من البلاد.
ولعل غياب الاهتمام بأفلام الرسوم في بلادنا العربية وغياب النقاد الذين يفهمونها ويحللونها كما أشرت أنت، يرجع إلى غياب هذا النوع من الأفلام أصلا عن السينما التي تنتج في البلدان العربية، وإذا وجدت فهي لا تعرض سوى على شاشة التليفزيون وللأطفال أساسا وبطريقة تعليمية أو بهدف تربوي مباشر. أما دور العرض فهي لا تغامر كثيرا بعرض أفلام الرسوم حتى المخصصة للكبار منها لأنها تخشى الخسارة، فالبعض يرى أن كل أفلام الرسوم متشابهة، فلماذ نضيع الوقت في مشاهدتها أصلا!
وفي النهاية أرجو أن أكون قد أجبت عن بعض تساؤلاتك، وإن لم يكن فعلى الأقل، نكون، انت وأنا، قد نجحنا في لفت الأنظار إلى أهمية هذا الخيال السينمائي الجميل.

3 comments:

غير معرف يقول...

شكر خاص لك أخي الكريم أمير العمري..
أرجوا أن تتابع ما تكتبته في مدونتك فشخصياً لم أجد أي موقع آخر يضع كتابات نقدية رائعة متنوعة تفيدنا وسهلة القراءة كما أرى في مدونتك..
بالنسبة للموضوع فأرى أن تسمية أفلام الرسوم بأفلام الصغار جائت كون معظم الأفلام الرسومية تتميز بالطابع الفكاهي الغير معقد وأبطال حكاياتها مخلوقات غريبة أو حيوانات صغيرة، وهكذا انطلاقاً من هنا يرى العديد من الناس أنها للصغار فقط
شخصياً لا أراها أفلاماً مخصصة للصغار وهذا على أساس أنها تناقش مواضيع وأفكار مهمة بالفعل وحتى لو كان قالب المعالجة كوميدي خيالي يخلو من التعقيد (مثل فيلم "والي" و"راتاتولي")... فهي دقيقة وتخاطب العقل والقلب كما تفعل الأفلام الدرامية البحتة... وليس كل فيلم خيال بسيط هو للصغار فقط
أفلام الرسوم معظمها هي للصغار والكبار معاً... وهنالك فقط للكبار مثل "أكيرا" المليىء بالمشاهد الدموية الجريئة

غير معرف يقول...

نورتنا ياأستاذ والله بأشياء كثيرة حول موضوع افلام الرسوم.. أحييك وأحيي قلمك واريد أن اطلب منك الاستمرار في تقديم كل ما يفيدنا من كتابات أصبحنا لا يمكن أن نستغني عنها يوميا.

غير معرف يقول...

أتفق معك استاذي أمير فيما ذكرت , نعم عندما انفكت عقدة المشاهد مع الاعلام الأمريكي وصار له ذوقه واختياره الخاص صار لأفلام الرسوم المتحركه قيمتها الفنية المعتبرة حاليا , خصوصا في السنوات الأخيرة حيث طالها الكثير من التغيير من حيث نظرة العالم لها , لكن هوليوود لا تزال في غيها .

بالنسبة للتكلفة فنعم هي ذات تكلفة أعلى من الأفلام العادية لكنها قد لا تصل إلى المبالغ التي ذكرت , فهناك أفلام لا تصنعها إلا هوليوود نظرا لحرفية الصناعة فيها كفيلم وولي الأخير , لكن عندما نخرج خارج نطاق هوليوود نجد محاولات بذلت بغير تكاليف باهضة . فالمنتج قد لا يغامر بانتاج ضخم من غير أن يضمن العوائد , لكن عندما تتوفر لنا العقول الاخراجية سيتوفر في هذا الفن انتاجات بتكاليف معقولة وقدمت مادة سينمائية جيدة .

بالنسبة لتأكثير افلام الرسوم فالعالم حاليا لا يستطيع سوى الاعتراف بذلك , بما فيهم قطب السينما هوليوود , فقصص الكوميك والرسوم أخت في التحول لتصبح أفلام ذات شعبية خارقة كفيلم كريستوفر نولان الأخير فارس الظلام , أما التأثير الاكبر في هذا المجال فكان للانتاج الياباني الغزير , فكوانتين ترنتينو يظهر هذا واضحا وجليا في فيلمه ذو الجزئين كيل بيل , فهو لم يقف عند حد الاقتباس بل تعداها إلى حد عرض لقطات من هذه الأفلام .

إذا الرسوم المتحركة ليست للأطفال باعتراف العالم , لكننا متأخرون عن العالم لذلك هي عندنا للأطفال .

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger