كان المدهش أن هذا المخرج ظهر فجأة، وبدون أن نعرف عنه أي شئ من قبل، بل إن فيلمه عرض في مهرجان القدس الإسرائيلي، بينما تقول المعلومات الضئيلة المنشورة عنه أنه من أبناء غزة، وإنه نشأ اصلا في مخيم الشاطئ المكتظ بالسكان في القطاع. كيف تمكن مشهراوي إذن من العرض داخل مهرجان إسرائيل الأول؟
الملجأ
كان يتعين الانتظار إلى أن جاء فيلم مشهراوي الذي أعتبره من افضل أفلامه كلها وواحدا من أهم الأفلام الروائية القصيرة في السينما العربية للعرض في مهرجان لندن السينمائي في خريف 1989 ولكن ممثلا لإسرائيل، لأنه مول أساسا من طرف السينماتيك الإسرائيلية التي كانت تشرف عليها امرأة يهودية من أصل روماني هاجرت إلى فلسطين عام 1940، هي ليا فان لير. وهي التي أسست السينماتيك كما أسست مهرجان القدس. وقد جاءت فان لير إلى لندن وقدمت فيلم المشهراوي الذي عرض مع فيلم آخر لمخرج اسرائيلي يهودي هو "كلا ياماتياس.. لا تتورط" في إطار إبراز وتأكيد ديمقراطية إسرائيل المزعومة، خاصة وأن الفيلم الثاني كان يوجه بدوره نقدا شديدا للفاشية الاسرائيلية والدولة البوليسية التي تقوض بسياساتها الأمنية أحلام الاستقرار أمام الجيل الجديد من أبناء المهاجرين اليهود من أمريكا اللاتينية.
كان "الملجأ" (40 دقيقة) الذي يقوم ببطولته محمد بكري يدور داخل بلدة صغيرة داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948، ويصور كيفية خضوع عمال البناء الفلسطينيين للأمر الواقع بعد النكبة من خلال التركيز على شخصية "أبو سمير" (يقوم بالدور سليم ضو) الذي يعمل في خدمة المقاولين الاسرائيليين كعامل بناء مستكين، قانع بما يلقونه إليه، إلى أن ينضم إليه ذات ليلة شاب فلسطيني مختلف هو بكري، يؤويه أبو سمير معه في غرفته ويمنحه عملا، لكن الغريب القادم من الخارج، الذي يرتدي ملابس الجينز، ويدخن باستهتار، ويتأمل في أرجاء الغرفة الحقيرة التي يقيم فيها مضيفه، يقلب حياة أبو سمير راسا على عقب، بعد أن يرده إلى ما يفعله، ويثير في داخله كل نغمات الشك والتردد في مغزى العمل في خدمة العدو. ولا تعود حياة أبو سمير أبدا إلى ما كانت عليه بعد ذلك.
ولكني لم أقابل مشهراوي إلا بعد ذلك بعدة سنوات، فلم تسمح له السلطات العسكرية الإسرائيلية (الديمقراطية جدا!) في ذلك الوقت (كانت الانتفاضة في عزها) بحضور مهرجان لندن. والتقينا أخيرا في القاهرة أثناء انعقاد مهرجانها السينمائي في اواخر 1993. ووقتها كان مشهراوي يعرض فيلمه "حتى إشعار آخر" بالمهرجان، وقد فاز الفيلم بالجائزة الكبرى رغم أنني لم أكن من المعجبين به. وكان رشيد وقتها شابا رائعا (له شعر أسود كثيف) قبل أن يتخذ لنفسه بعد سنوات "ستايل" تيلي سافالاس أو كوجاك (كما يبدو من الصورة المنشورة إلى أسفل).
بعد ذلك التقينا في الكثير من المناسبات، خاصة في مهرجان قرطاج ثم مهرجان روتردام الدولي ومهرجان كان، وغير ذلك. وقد كنت دائما معجبا بالنشاط الكبير لرشيد، كما أنني أعتبره أحد أفضل التسجيليين الفلسطينيين والعرب، غير أنني أختلف معه فيما يتعلق بطريقة بنائه لأفلامه الروائية أو التي يعتبرها هو كذلك، واطالبه (وقد كتبت هذا) بتحرير خياله وتطوير أسلوب ولغة بناء السيناريو والتعاون مع بعض الكتاب المحترفين في هذا المجال (وليس على نقاد أو صحفيين!!).
لم أعرف ما حدث لرشيد. التقينا قبل 3 سنوات عندما شاهدت فيلمه "انتظار" في مهرجان فينيسيا 2005، ثم التقينا في أوائل 2006 في روتردام وكان يسعى هناك لضمان تمويل فيلم جديد له. وها هو اليوم يزف إلينا بشرى فيلمه القادم الذي سيعرض قريبا "عيد ميلاد ليلى"، الذي أرسل لي ما كتبه عنه من كلمات قليلة يقدمه بها للجمهور، وهي كلمات بسيطة ولا تحتوي على شعارات كبيرة ولا إدعاءات سياسية على طريقة "حنا للسيف والخيل"!
تلك الواقعة
بقى أن أذكر تلك الواقعة الغريبة التي حدثت لي في مهرجان لندن السينمائي في ذلك العام 1989، فقد وجدت نفسي ذات مرة جالسا في النادي المخصص لتجمع الصحفيين في المهرجان، وكانت هناك بعض المقاعد الخالية حول مائدتي، بينما كان المكان يعج بالحضور. وفجأة ظهرت ليا فان لير ومعها رجل كبير السن أبيض الشعر ممتلئ الجسد قليلا، وجلسا معي على نفس المائدة، فلم يبدر مني أدنى اهتمام بأمرهم بل ربما بدا بعض التبرم والضيق على وجهي!
الرجل الغامض
غير أن الرجل المصاحب للسيدة لير سرعان ما فتح معي حديثا غريبا، وبدأ أولا بتعريف نفسه ذاكرا اسمه ، ثم سألني ألني أن أقدم نفسي ففعلت لأنني لا أخشى مواجهة تلك الأصناف واعتدت على الاحتكاك بها في مهرجانات ومناسبات مختلفة، وكنت بالتالي أتعامل مع الموقف بمنتهى البرود ولكن من دون أدني سعادة أو رضا. ثم فوجئت بع يوجه لي سؤالا مباشرا عن اسباب منع فيلم "البرئ" لعاطف الطيب في مصر، وما هي الجهة التي منعته، وما مصيره حاليا.. وغير ذلك. وكان اهتمامه بالموضوع مثار تعجب مني. وكان قرار وقف الفيلم ثم المطكالبة بتغيير نهايته صدر من القيادة العسكرية في ذلك الوقت، ثم سمحت بعرضه بعد تغيير نهايته لتصبح أكثر "معقولية" من وجهة نظر تلك السلطات. لكني أيضا لم أفهم، وربما لازلت لا أعرف سبب كل ذلك الاهتمام من جانب ذلك الرجل بموضوع فيلم البرئ.
ثم أخذ يتحدث بفخر عن أنهم في إسرائيل لا يمنعون اي فيلم من العرض، فقلت له إن هذا غير صحيح لأن الرقابة العسكرية الإسرائيلية تمنع عشرات الأعمال التي لا تتواءم مع السياسة الاسرائيلية، فقال لي إنهم صرحوا بتصوير فيلم "حنا ك" لكوستا جافراس دون اي مشاكل، فرددت بأن هذا غير صحيح وإن الفيلم منع من العرض في اسرائيل، فقال إن كل الأفلام تعرض في السينماتيك الإسرائيلية دون رقابة.
واردت إحراجه فسألته ما إذا كان يعمل في السينما وما علاقته هو بمهرجان لندن؟ فقال إنه جاء في صحبة زوجته وهي ليا فان لير نفسها، وفاجأني عندما قال لي إنه طيار سابق في سلاح الجو الإسرائيلي، وإنه هو الطيار الذي قاد الطائرة التي حملت السادات إلى القدس عام 1977.
اللغز
0 comments:
إرسال تعليق