الأحد، 3 أغسطس 2008

تحية إلى تحفة اسمها "كليفتي"


لم أكن قد شاهدت فيلم المخرج الكبير محمد خان "كليفتي" الذي أخرجه منذ سنوات. وكنت قد تأهبت لمشاهدته عند إدراجه في برنامج أحد المهرجانات السينمائية العربية في اطار تكريم محمد خان في أوائل 2005، لكن المهرجان، ويالسخرية، لم يفلح في الحصول على "وسيلة" أي آلة لعرض الفيلم الذي صور بكاميرا الفيديو (الديجيتال). وكان يتعين الانتظار أكثر من 3 سنوات أخرى لمشاهدة الفيلم عند عرضه أخيرا في إحدى القنوات الفضائية المتخصصة في عرض الأفلام.
ولا أقول أنني فوجئت بالمستوى الفني الممتاز من جميع النواحي في هذا الفيلم البسيط الإمكانيات، بل إنني فوجئت بالفعل أنني أمام "تحفة" سينمائية خالصة، لا مجال فيها للخطب والمواعظ والأفكار المعلبة المسبقة عن "واقعنا السياسي والاجتماعي وما أصابه وحل به من نكبات".. إلى آخر كل هذه الشعارات التي يروق للبعض ترديدها تعظيما لكل ما يتفق "أيديولوجيا" مع أفكارهم المسبقة، فالفيلم ليس من أفلام الهجاء السياسي بل هو من أفلام البحث الشاق عن العلاقة بين الإنسان والعالم المحيط به، ليس على صعيد مجرد أو تجريدي بالطبع، بل في إطار محدد نعيشه ونلمسه.

فالإنسان هنا هو ذلك الإنسان البسيط المهمش، الضائع، الذي لا يكف عن التطلع لتحقيق أحلامه الصغيرة إلا
أنها تجهض باستمرار، ويتعين عليه في كل الأوقات أن يدفع الثمن: تارة في السجن الصغير، وترة أخرى يصبح مطاردا كفريسة مذعورة في السجن الكبير، لكنه يظل دائما يحاول ويسعى للتماسك ولو على مستوى القشرة الخارجية، بينما هو مهزوم ومحطم بالكامل في داخله.
هناك تيار ما "وجودي" في هذا الفيلم الشاعري الجميل المحمل بعشرات الإشارات حول معنى الوجود في عالم يرفضك ويضيق عليك، تفلت منك الفرصة فيه تلو الأخرى باستمرار، لكنك تحاول وتسعى وتتشبث ببصيص من الأمل: في الحب، في الصداقة، في استراق السمع، في سرقة الأشياء الصغيرة، في التعالي على المظاهر الخارجية من حولك، في الإحساس بعدم جدوى ما تفعله في قرارة نفسه، لكنك تواصل "ارتكابه" لأنه الشئ الوحيد الذي يضمن لك مجرد البقاء ولو على الهامش.
الأصدقاء يصبحون وهما كبيرا، والأسرة طغيان من المشاعر التي لا يمكنك احتمالها، والحب لا مجال له لكي يكتمل بل يتوقف عند لحظات من المتعة المسروقة التي تمنح بطلنا الصعلوك المشرد، نقطة ضوء يواصل بها الاتكاء على جذع من النوايا الطيبة، والكثير من الحماقات الصغيرة.

فيلم "كليفتي" واحد من أكثر الأفلام شجاعة وتحررا، من كل سمات السينما العتيقة البالية: سينما الحبكة المفتعلة والتهريج باسم الكوميديا الجديدة، والروح العدمية التافهة المغلفة بالألفاظ المتدنية التي جعلت حتى اللهجة المصرية تصبح سوقية ومبتذلة، حتى أصبح المرء يشعر بالخجل منها.
هذا فيلم مصنوع برقة الشاعر المبدع الذي بلغ قمة نضجه في التعامل مع الصورة، بمساعدة فنان الصورة الكبير طارق التلمساني، والتحكم الذي يبلغ درجة السيطرة المطلقة على أداء الممثلين: باسم سمرة ورولا محمود.
ويمكنني القول إن باسم سمرة ورولا محمود ولدا بالفعل للمرة الأولى في فيلم "كليفتي"، ولاشك أن "الكيمياء" التي تتدفق بينهما من خلال المشاعر الخافتة، والنظرات المكتومة، والهمسات الوجلة، والضحكات المنتزعة من قلب الواقع القاتم، تضفي على الفيلم مزيدا من الرونق والجمال، وتجعل لمشاهدة الأداء التمثيلي متعة خاصة. إنها مباراة في الأداء السلس البسيط البعيد عن الافتعال والتحذلق، الذي يخفي أكثر مما يظهر، لكن ما يخفيه يصل إليك كمشاهد من خلال أسلوب ولغة الصورة: الانتقال من لقطة إلى آخرى، والتكوين، واختيار الأماكن المعبرة، وزوايا التصوير التي تمنحك أقصى شعور بالجمال المحبوس في سجن الواقع المثقل بالهموم، وطريقة محمد خان في إنهاء المشهد في الوقت المناسب تماما بدون أي زيادة أو نقصان.
لا أعتبر أن هذا نقد للفيلم بل مجرد خواطر أكتبها مدفوعا بشعوري الشخصي بضرورة عدم إفلات الفرصة لتسجيل إعجابي الكبير بهذه التحفة التي ظلمت كثيرا. لكن عزائي أن فيلم محمد خان وصل ولا يزال يصل للجمهور العريض من خلال شاشة التليفزيون. ألم تصبح شاشة التليفزيون الرئة التي تتنفس بها السينما على أي حال!

2 comments:

غير معرف يقول...

ما يسعدنى ان هناك قناة اهتمت حقا بالفليم و عرضتهو اتمنى ان ارى كثير من هذه الافلام التى نسمع عنها ولا نراها ابدا!

غير معرف يقول...

كليفتى يقول...

ما يسعدنى ان هناك قناة اهتمت حقا بالفليم و عرضتهو اتمنى ان ارى كثير من هذه الافلام التى نسمع عنها ولا نراها ابدا!

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger